فيما يواصل اللبنانيون الركض خلف الدولار الذي اقترب سعره أمس من سقف الـ 90 ألف ليرة، أُعلن أمس رفع سعر صرف الدولار الجمركي الى 45 ألف ليرة، ما سيزيد الصعوبات المعيشية مع موجة جديدة من ارتفاع الأسعار.وخلال بضعة أشهر، زاد سعر الصرف المعتمد لتحصيل الضرائب والرسوم، ولا سيما «الدولار الجمركي» وضريبة القيمة المضافة، بنحو 29 ضعفاً من 1507.5 ليرات إلى 45 ألف ليرة. جرى ذلك في المرّة الأولى بقرار اتّخذه وزير المالية يوسف الخليل بالتنسيق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، رفع بموجبه الدولار الجمركي إلى 15 ألف ليرة. إلا أن رفعه أمس إلى 45 ألف ليرة جاء بناءً على مراسلة بين وزير المالية ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، خلصت إلى عدم ممانعة الأخير على الزيادة، بل برّر موافقته بتحسين إيرادات الخزينة التي تشهد قحطاً. فموازنة 2022 أقرّت قبل ثلاثة أشهر من نهاية السنة، وعلى هامشها اتفق على أن يكون احتساب الدولار الجمركي بقيمة 15 ألف ليرة اعتباراً من شباط 2023. وبُرّر ذلك يومها بأن التجّار سبق أن رفعوا أسعار سلعهم وسعّروها بالدولار وأنهم يسددون الرسوم والضرائب بالليرة على سعر صرف يبلغ 1507.5 ليرات وسطياً، ما يفوّت على الخزينة أكثر من 10 آلاف مليار ليرة سنوياً، ويتيح للتجّار تحقيق مزيد من الأرباح. لكن لم يكد يمضي شهر على بدء تطبيق احتساب الدولار الجمركي بقيمة 15 ألف ليرة مقابل كل دولار استيراد، حتى قرّر وزير المالية تعديل احتساب الدولار الجمركي ليصبح 45 ألف ليرة، وراسل رئيس الحكومة لأخذ موافقته، رغم أن الخطوة السابقة لم ترتبط بموافقته.
سيناريوات الخطوة الأولى لرفع الدولار الجمركي تشير إلى أنها ستحقق للخزينة نحو 1700 مليار ليرة شهرياً، ومع رفعه إلى 45 ألف ليرة يفترض أن يحقق للخزينة ثلاثة أضعاف ذلك، إذا لم يؤخذ في الحسبان أن زيادات ضريبية كهذه ستؤثّر سلباً على حركة الاستيراد والاستهلاك، أي أن الإيرادات منها قد تصل إلى 55 ألف مليار ليرة سنوياً.
لكن حتى الآن ليس واضحاً كيف اتخذ القرار. فهل السعر المستهدف، أي 45 ألف ليرة، هو سعر صرف سيعتمد لكل الضرائب والرسوم الرسمية؟ ومن حدّد السعر الذي سبقه، أي الـ 15 ألف ليرة، وعلى أي أسس؟ وهل سينطبق سعر الصرف هذا على بضائع معينة دون أخرى كما حصل مع تجّار ومستوردي السيارات الذين «فازوا» بسعر صرف يبلغ 8000 ليرة لكل دولار بشكل مخالف للفقرة (د) من البند الرابع من المادة 35 من قانون الجمارك. إذ تم الاستناد إلى هذه الفقرة لتعديل سعر الصرف لما يمكن تسميته «الدولار الجمركي» وهي تنصّ على الآتي: إذا كانت قيمة البضائع الواردة في الفاتورة محرّرة بعملة أجنبية، يتم تحويلها إلى عملة لبنانية بتاريخ تسجيل البيان التفصيلي والمستند إلى معدلات التحويل التي يحدّدها شهرياً أو دورياً مصرف لبنان». فما حصل هو أن مصرف لبنان حدّد متوسطات أسعار العملات بقيمة 15 ألف ليرة، ثم أصدر جدولاً ثانياً يمنح مستوردي السيارات أفضلية استعمال سعر صرف يبلغ 8 آلاف ليرة.
ليس واضحاً كيف اتُّخذ القرار وهل الـ 45 ألف ليرة ستعتمد لكلّ الضرائب والرسوم الرسميّة


بمعنى أوضح، هذه القرارات تعدّل سعر الصرف المعتمد لاستيفاء الرسوم والضرائب بشخطة قلم يقرّرها مصرف لبنان وحاكمه المشتبه في قيامه باختلاس المال العام والقيام بعمليات تبييض للأموال المختلسة في عدد من المصارف المحلية والدولية في لبنان والخارج. واللافت أن تحديد سعر الصرف هذا يوازي نصف سعر الصرف في السوق الحرّة الذي بلغ أمس 88 ألف ليرة. فهل يصدر سعر صرف جديد بمجرد نشوء مراسلات بين وزارة المالية ورئاسة الحكومة ومصرف لبنان؟ أليست هناك استراتيجية لسعر الصرف يفترض أن تتبناها الحكومة وينفذها مصرف لبنان بناءً على الاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي؟ وحتى لو لم يرد لبنان التعاون مع الصندوق، فإن تحديد سعر الصرف عشوائياً من دون أي استراتيجية في ظل الظروف المعروفة الخسائر الكبرى في النظام المالي، والتي لم تعالج منذ ثلاث سنوات مسبّبة تضخّماً هائلاً يغذّي ارتفاعاً متواصلاً ومتسارعاً في سعر الصرف، وفي ظل الفراغ السياسي وانهيار مؤسسات القطاع العام ولجوء عدد منها إلى التمويل الخارجي، لن يكون سوى واحدٍ من محفّزات الحلقة المغلقة لاستمرار الانهيار في سعر الصرف والتضخّم.
هنا يبدو واضحاً أن لا أولوية لدى قوى السلطة في التخلّي عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بل تريده وتحتاج إلى سياساته بشدّة لمواصلة تحميل المجتمع والاقتصاد كلفة تذويب الخسائر. مشروع قوى السلطة هو رفع هذه الخسائر عنها، وتقسيط فواتيرها على حساب المجتمع للسنوات المقبلة وربما لأكثر من عقد من الزمن.



ميقاتي لا يمانع
أشار كتاب صادر عن رئاسة الحكومة بتاريخ 28/2/2023 موجّه إلى وزارة المالية بشأن «رفع المتوسطات الشهرية لأسعار العملات الأجنبية التي جرى اعتمادها في احتساب الرسوم والضرائب على البضائع والسلع المستوردة»، وتضمن الآتي:
«بما أن مجلس الوزراء بموجب قراره الرقم 2 تاريخ 27/2/2023 قد كلّفكم وضع دراسة متكاملة تراعي وضع الخزينة والمالية العامة للدولة، ويكون من شأنها في الوقت نفسه تأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات عمل الموظفين والمستخدمين كافة، وذلك بالتزامن مع تفعيل الجباية بشكل يؤمّن واردات للدولة تسمح لها بالإنفاق وفقاً لأسس علمية وتؤدّي الغاية المنشودة بعيداً من مخاطر التضخم والإنفاق غير المدروس.
وبما أنكم تطلبون رفع المتوسطات الشهرية لأسعار العملات الأجنبية التي يجب اعتمادها في احتساب الرسوم والضرائب على البضائع والسلع المستوردة من سعر 15 ألف ليرة إلى سعر 45 ليرة للدولار الأميركي الواحد، لتأمين التمويل اللازم للعطاءات والزيادات التي أقرّت والتي ستقرّ لاحقاً.
وبما أن التدبير المطلوب يؤدّي إلى تأمين واردات إضافية تسهم في إعادة إحياء العمل في القطاع العام على الصعد كافة، وهو أمر يفترض أن يشكّل إحدى ركائز الدراسة المطلوبة منكم بموجب قرار مجلس الوزراء المبين أعلاه.
وعليه، فإن السيّد رئيس مجلس الوزراء يُبدي عدم ممانعته على ما ورد في كتابكم في حال ارتأيتم أن التدبير المطلوب مناسب ويصبّ في خانة تحقيق الأهداف المنشودة على النحو المذكور أعلاه».