تتعامل قوى سياسية فاعلة بواقعية مع أمرين: دقة الوضع الداخلي الذي يقارب حد المواجهة، واعتبار أن الانتخابات الرئاسية صارت أبعد مما كان يتوقعها الجميع، بغض النظر عن الترشيحات المعلنة وغير المعلنة والحملات الترويجية لأي من المرشحين. لذا، قد يكون من المنطقي أكثر من السؤال عن هوية رئيس الجمهورية، السؤال عن توقيت انتخابه، لأن على هذا التوقيت سيبنى الكثير من قراءة الوضع المستقبلي للبنان. وفق هذه المعادلة يصبح النظر إلى كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بأنه رسم طريق رئاسة الجمهورية من مكان آخر.فقد رفع نصرالله في خطابه الذي لا يزال محور نقاش مستفيض حول خلفياته وتأويلات ما ربط به ملف الوضع الداخلي بالخارج، السقف السياسي تحت عنوان الرئاسيات والأزمة الاقتصادية، مبعداً المواجهة عن الصدام الداخلي ليضعها مع الولايات المتحدة. وهو بذلك أرسل رسائل عدة ووضع إطاراً جديداً لانتخاب رئيس الجمهورية بدأ يتبلور تباعاً.
حدد الحزب بوضوح شروطه للانتخابات أمام من يعنيهم الأمر، وفتح الباب للكلام معه حول الانتخابات كسلّة متكاملة وليس الرئيس فقط، إذا كان هناك من يريد بدء الحوار لإجراء الانتخابات. وهو كان واضحاً في إظهاره أنه يمتلك توقيت الانتخابات قبل أن يصل إلى نقاش هوية الرئيس ومفاعيل الحوار الداخلي والخارجي حوله. فالموعد المعروف محدد دستورياً بمهلة الشهرين قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية. أما وقد انتهت المهلة من دون انتخاب خلف للرئيس ميشال عون، فلم يعد يمكن لأي طرف آخر غير الحزب الإفراج عن موعد إجراء الانتخابات. وهنا، شرّع الحزب الباب للعروض الداخلية والخارجية معه، لأن له مصالح تتعدى التوقيت اللبناني للحدث الرئاسي، لا سيما بعد التطورات التي أحاطت بسوريا إثر الزلزال الذي أصابها، وانفتاح دول عربية على دمشق التي تلقفت هذا الانفتاح والمساعدات المرتبطة بها. وفي انتظار تبيان كلفة هذا الانفتاح على التقاطع بين النظام الذي كان مطوقاً ومحتاجاً إلى طهران، وبين محاولة إخراجه من عزلته، لا يمكن التسرع في ذهاب لبنان إلى قرارات بحجم تغير أساسي من خلال انتخابات رئاسية بتوافق داخلي فحسب، رغم الحث الغربي على لبننة الاستحقاق. وهذا الأمر يحتسب إقليمياً من بوابة سوريا، كما يمكن قراءة تأثيراته على الوضع اللبناني من خلال نظرة طهران إلى كل الساحات التي يحاول خصومها إعادة فرض إيقاعهم فيها وتحييدها عن النفوذ الإيراني.
رسم حزب الله خريطة طريق مواجهة عالية السقف مع الولايات المتحدة لإبعاد المواجهة عن الداخل


في موازاة ذلك، يظهر حزب الله برسمه خريطة طريق المواجهة العالية السقف مع الولايات المتحدة، أنه أبعد المواجهة عن الداخل في اتجاهها، لأن كافة القوى على بينة من خطورة ما يجري داخلياً وكلفة الإشكالات الحالية والخطاب الطائفي والسياسي الذي بدأت تنتهجه القوى السياسية تجاه بعضها البعض، ما من شأنه أن يفاقم التوتر القائم على خلفيات حكومية ودستورية وسياسية، ويجعله ينحدر أكثر إلى أمكنة غير مسبوقة. وهذا ليس أمراً يسيراً في حسابات الحزب الذي يتعامل مع القوى المعارضة، وليس المسيحية فقط، على قدر من التحسب لردود فعلها. وقياساً إلى ما جرى في الأشهر الطويلة التي سبقت انتخاب عون فإن الوضع الحالي مختلف سواء بالنسبة إلى الحزب أو وضع القوى المعارضة أو التي كانت حليفة له. حينها، وضع الحزب قرار اختيار عون في جيبه لكنه ترك لطرفين قيادة المواجهة: الرئيس سعد الحريري من جهة وعون نفسه الذي كان يقف معه كفريق مسيحي قوي، وتولى تسويق الإطار الانتخابي تدريجاً قبل الوصول إلى التسوية الكبرى. وهذان القطبان السني والمسيحي عطلا أي مواجهة داخلية. وهذا ليس هو واقع الحال اليوم. ومن الصعب على الحزب أو أي طرف آخر، التقليل من خطورة أي صراع داخلي في مرحلة التجاذبات في كافة الملفات. فرغم أن هذه القوى تفتقد القدرة على إجراء الانتخابات في توقيتها وبحسب الشخصية التي تختارها، لكن في استطاعتها في الوقت نفسه أخذ المواجهة إلى نقطة اللاعودة. والطرفان اللذان حافظ معهما على وضعية التهدئة في انتظار الإفراج عن الانتخابات باتا في مكانين منفصلين. الحريري مبعد عن الساحة السياسية ولا يملك الدالة التي يفترض أن تكون له على الأصوات التي يحتاجها الحزب، والتيار الوطني الحر ممثلاً بالنائب جبران باسيل على خصومة شديدة لا تحتاج إلى مزيد من الصدام معها.
من هنا يصبح أمام الحزب خيار ربط الانتخابات بالخارج بما يشكل مجالاً أوسع لتطبيع الوضع الداخلي، في انتظار ما يسمح له بالإفراج عن إجراء الانتخابات في موعد ملائم لنوعية حركته وحركة إيران إقليمياً. آنذاك يصبح اسم الرئيس ترجمة للمسار الذي ستفرزه طبيعة المرحلة الجديدة.