في الشكل، كان لقاء باريس الخماسي اجتماعاً دوليّاً من طرف واحد للبحث في ملف يعني طرفين. وهو أكد، في الشكل أيضاً، على توسيع غرفة العمليات الخاصة بهذا الطرف لتشمل قطر ومصر الأولى بوصفها صلة وصل مستقرة مع إيران وحزب الله وأفرقاء لبنانيين آخرين، ومصر بوصفها الشريكة الاستراتيجية المتقدمة لفرنسا في الأمن وصفقات السلاح وليبيا و«دولة الاستقرار العربيّ العميقة» من جهة أخرى. أما هويات المشاركين (باستثناء السفير المصري في باريس) فتكشف أنه اجتماع تقني، لا سياسي أو ديبلوماسي أو إعلامي أو استعراضيّ، للمديرين المباشرين للملف اللبناني: باربرا ليف (مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى) أهم في اجتماع كهذا الاجتماع من وزير الخارجية الأميركيّ نفسه، ومستشار الديوان الملكي السعودي نزار العلولا أهم في اجتماع كهذا من وزارة الخارجية السعودية مجتمعة ومجلس الوزراء أيضاً، فيما لا يوجد في إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون معنيّ بالملف اللبنانيّ أكثر من مستشاره باتريك دوريل.
(هيثم الموسوي)

كان يمكن أن يبقى الاجتماع سرياً أو بعيداً من الأنظار كما تقتضي أهدافه، لو لم تتسرع ماكينة قائد الجيش العماد جوزيف عون في تحميله أكثر مما يحتمل.
هنا، ينبغي تسجيل إضافة أساسية تتجاوز الشكل إلى المعلومة: في ظل إدارة جو بايدن، هناك تفويض أميركي غير مسبوق للفرنسيين مع هامش حركة كبير، شرط تنسيق الموقف في القضايا الأساسية وعدم تجاوز الخطوط الأميركية الحمراء. وهو ما يقود إلى معلومة إضافية: يلتزم الأميركيون والسعوديون بضبط كامل للنفس في ما يخص ترشيح جوزيف عون، فيما يعجز الفرنسيون والقطريون - وأخيراً المصريون - عن السيطرة على حماستهم لهذا الترشيح.
ما بين الشكل والمضمون، تبرز تلك القطبة الذكية في عدم إصدار المجتمعين أي بيان، على نحو مفيد جداً سياسياً وإعلامياً وأمنياً. إذ إن تداعيات أي بيان تنتهي بعد دقائق من إصداره، أما عدم صدور بيان فهو أمر مربك. علماً أن اجتماعات كهذه يسبقها تحضير منهجي مسبق «متشعب المشاورات» تتوج بالاجتماع، وهو في خلاصة من راقب بدقة، قبله وخلاله وبعده، لن «يشيل الزير من البير». لكنه ليس اجتماعاً «تافهاً». بل بداية مسار لزخم دولي، ينتظر أن يحرك المجتمعون أدواتهم المختلفة، لخلق زخم داخليّ يقابله في منتصف الطريق.
يحرص الأميركيون على التعميم بأنهم لا يفضلون مرشحاً على آخر حتى لا يحسب فوز عون انتصاراً لفريق


وتشير المعلومات الديبلوماسية المواكبة عن قرب للقاء الخماسيّ إلى توافق كامل بين المشاركين الخمسة على محاولة إعادة عقارب الزمن في لبنان إلى قبل ما يصفونه بـ«حكومة القمصان السود» تارة و«انقلاب حزب الله» طوراً، ويقصدون بذلك 13/6/2011 تحديداً، يوم قبول استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري وتكليف الرئيس نجيب ميقاتي. وهو ما يستوجب:
- انتخاب رئيس جديد للجمهورية وفق معادلة 2008: رئيسٌ ليس لقوى 8 آذار، لكن ليس معادياً لهذه القوى؛ شخصية كشخصية ميشال سليمان، لا تمثل في الشكل انتصاراً لقوى 14 آذار ولا انتصاراً للحزب.
- الاتفاق على رئيس جديد للحكومة، غير نجيب ميقاتي، في ظل إجماع ديبلوماسي على أن ضغوط ماكرون على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للقاء ميقاتي أدت إلى نتائج عكسية. إذ ضاعف اللقاء من نظرة بن سلمان السلبية لميقاتي بدل أن تخفف منها. مع جزم سعودي بأن ميقاتي كان الشريك الأول، لا الثاني أو الثالث، للحزب في التخطيط والتنفيذ منذ 2011 إلى اليوم، وما كان يمكن للحزب أن يحافظ سياسياً على مكتسباته لولا غطاء ميقاتي.
- الاتفاق على إفشال أي محاولة للتجديد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة في ظل تصديق المشاركين على الرواية الفرنسية عن لعب الحاكم دور حائط الدعم والإسناد للطبقة السياسية التي يشكون من أدائها. مع تأكيد أميركيّ على انتهاء التزامهم المعنويّ تجاه سلامة مع انتهاء ولايته الحالية، خصوصاً مع استنزافه التقديمات التي ما زال قادراً على تقديمها على مذبح إرضاء الأميركيين. مع العلم أن الرئيس الفرنسي كان يضع تغيير الحاكم في مقدمة أولوياته ضمن المبادرة المكتوبة التي جاء فيها إلى بيروت بعيد انفجار المرفأ، وهو كان يعتبر أن «الإصلاح في الحاكمية» يتقدم على «إصلاح قطاع الكهرباء» في أية مبادرة إنقاذية.
وهو ما يمكن ترجمته بتأكيد المجتمعين على تجاوز الإحباط واليأس السعوديين لتكرار المحاولات من أجل تغيير التوازن السياسي في البلد، واستعادة الرئاستين الأولى والثانية، مستفيدين من قدراتهم المالية من جهة، والانهيار المالي الذي يهدد بانهيار أمني واجتماعي من جهة أخرى.
وهذا يمهّد عملياً لجولة جديدة من المواجهة يحل فيها «الترغيب الفرنسي – القطري» محل «الترهيب الأميركي – السعودي» لتحقيق الهدف نفسه: إعادة عقارب الزمن إلى ما قبل 2011 بما تمثله من نأي حزب الله بنفسه داخلياً – ثم خارجياً. مع تأكيد المعلومات الديبلوماسية أن ممثلاً عن المجتمعين، يرجح أن يكون فرنسياً أو فرنسياً – قطرياً، سيجول قريباً على السياسيين اللبنانيين لوضعهم في أجواء الاجتماع الخماسي بلهجة ودودة تقول ما مفاده: «الأزمة خانقة، وهناك استحالة للخروج منها، من دون رضا ومباركة أميركية – خليجية، وكل ما يريده الأميركيون والخليج اليوم هو رئيس لا يمثل استفزازاً سواء لهما أو لحزب الله، وكذلك في رئاسة الحكومة والحاكمية وغيره؛ هل يمثل ذلك استفزازاً أو ابتزازاً لأحد؟». وسيزيد هؤلاء أن الحزب «حقّق انتصاراً سياسياً لكن لم تسعفه الظروف (الاقتصادية والاجتماعية) في المراكمة عليه، فهل تمثل العودة إلى مرحلة التعادل الإيجابي هزيمة له أو انكساراً؟» وسيضيفون أيضاً: «أخذ الحزب شيئاً ليس له عام 2011، كل ما نطلبه اليوم هو استعادته منه».
في ظل حرص الأميركيين على التعميم بأنهم لا يفضلون مرشحاً رئاسياً على آخر، حتى لا يحسب فوز قائد الجيش جوزيف عون انتصاراً لفريق وهزيمة لآخر، حتى لو كان الأمر كذلك في واقع الأمر. بعكس الحزب مثلاً الذي كان بوسعه مواصلة التعامل مع ترشيح فرنجية كما يتعامل الأميركيون مع ترشيح عون، لكنه عدل بطريقته حتى بات تراجع فرنجية أو عدم فوزه بالرئاسة بمثابة هزيمة للحزب. في ظل توقع دائم أن يتزامن الحراك الديبلوماسي – السياسي مع حراك سياسي – اجتماعي – اقتصادي – شعبي ضاغط كما جرت العادة.