منذ مطلع الشهر الجاري، صدرت أربعة جداول لأسعار حليب الأطفال. الأول في 4 كانون الثاني عنوانه «وفق سعر صرف الدولار الأميركي 42000 ل.ل»، والثاني في 9 كانون الثاني عنوانه «وفق سعر صرف الدولار الأميركي 44000 ل.ل»، والثالث في 17 كانون الثاني عنوانه «وفق سعر صرف الدولار الأميركي 48000 ل.ل»، والرابع في 23 كانون الثاني عنوانه «وفق سعر صرف الدولار الأميركي 50000 ل.ل.». أربع تسعيرات ولم ينته الشهر بعد، ولم يزل سعر الدولار يرتفع. لكن ما الهدف من هذه الجداول؟الهدف المعلن من هذه التسعيرات هو تحديد سعر مبيع حليب الأطفال، باعتباره سلعة حيوية ومهمة جداً للصحة العامة ولا سيما للمواليد الجدد والذين لم يبلغوا عاماً واحداً، مثلها مثل الدواء. وبحسب الجدول الأخير الذي يتضمن 139 صنفاً من حليب الأطفال معلّبة بأشكال مختلفة تتراوح بين 300 غرام و900 غرام، فإن المعدل الوسطي لسعر مبيع الكيلوغرام الواحد يبلغ مليون ليرة. وهذا السعر محسوب على أساس سعر صرف يبلغ 50 ألف ليرة، أي أن سعر الكيلوغرام الواحد يبلغ 20 دولاراً.
في المقابل، تشير إحصاءات الجمارك إلى أن لبنان استورد عام 2022 نحو 12365 طنّاً من حليب الأطفال بقيمة إجمالية تبلغ 56.9 مليون دولار، أي أن المعدل الوسطي لسعر استيراد الكيلوغرام الواحد يبلغ 4.6 دولار، بزيادة نسبتها 21% مقارنة مع المعدل الوسطي لسعر الكيلوغرام عام 2021 والبالغ 3.8 دولار. علماً بأنه في عام 2020 كان السعر يبلغ 3.77 دولار، وفي 2019 كان 3.78 دولار وفي 2018 كان 3.6. هذه الأرقام تعني أن وتيرة الأسعار بين عامي 2018 و2021 منطقيّة، إلى أن طرأت عليها زيادة كبيرة في 2022 يمكن تفسيرها جزئياً بموجة التضخّم العالمية، ولا سيما أن لبنان يستورد حليب الأطفال من الدنمارك وفرنسا والأرجنتين وتشيكيا وسواها.



انقر على الجدول لتكبيره

اللافت وجود فرق بين عدد الشركات المستوردة لحليب الأطفال، وبين عدد الشركات الموزّعة المذكورة في جداول وزارة الصحّة. ففي 2022 سجّل في إدارة الجمارك، 13 شركة نفذت عمليات استيراد حليب الأطفال إلى لبنان. أما جداول وزارة الصحة، فقد تضمنت 21 شركة تبيع هذه السلعة في السوق المحلية. هذا العدد الكبير من التجّار يشير إلى وجود أرباح كبيرة متأتية من مبيعات هذه السلعة. وأن لا تنافس فعلياً بينها طالما أن هذه الأرباح محمية بموجب قرارات يصدرها وزير الصحّة. فالقرارات التي يصدرها الوزير يفترض أن تهدف إلى حماية المستهلكين من الغشّ التجاري الذي تواظب الشركات المستوردة على القيام به. وهذا الأمر يتم من خلال مراقبة أسعار المبيع في السوق والتدقيق في فواتير الموردين لجهة الكميات الواردة بما فيها العروضات التي يحصلون عليها، وأسعارها، لا سيما أنهم يصرّحون للجمارك عنها. إنما في الواقع، تضمر عملية التسعير التي تقوم بها الوزارة أهدافاً أخرى. ففي النتيجة يتبيّن أن المستهلك هو المتضرّر منها كونها غير منطقية وغير محسوبة علمياً. لا بل يبدو أن الوزارة تحبّذ أن تخضع لضغوط التجّار التي تحصر الخيارات بتقنين السلعة أو التوقف عن إمدادها في السوق، مقابل تأمينها بأسعار مرتفعة. والشركات فرضت على الوزارة إصدار جداول دورية ربطاً بتقلبات سعر الصرف من دون أن يكون للوزارة أي دور فعلي في عملية التسعير سوى احتساب سعر الصرف وإصدار الجداول. دور الوزارة في هذا المجال يبدو سطحياً، بل ينحو نحو التآمر مع التجّار ومسايرتهم لتحقيق غاياتهم. وهنا يصبح الغرض من الدور المنوط بالوزارة لجهة تسعير هذه السلع والحرص على جودتها وأسعارها وتوافرها، بلا جدوى فعلية.
21 شركة تبيع الحليب في السوق المحلية ما يشير إلى أرباح كبيرة متأتية من مبيعات هذه السلعة


مهمّة ضبط التجّار ومنعهم من استغلال المستهلك ليست سهلة. لكن المسار واضح. فالأسعار لا ترتفع بهذه النسبة الكبيرة إلا عندما يكون النفوذ التجاري كبيراً في بنية السلطة. فهل من واجب الوزارة أن تصدر تسعيرات يومية لمبيع حليب الأطفال، في وقت أن الكميات التي أتت إلى لبنان بأسعار سابقة لم تستهلك بعد؟ الإجابة واضحة، فالوزارة تتيح لأصحاب الرساميل حماية رساميلهم وضمانتها ضدّ مخاطر تقلبات سعر الصرف من جيوب المستهلك وأجورهم. وبهذا المعنى، فإن الوزارة تمارس دورين متناقضين؛ فهي من جهة تمارس رقابة على الأسعار، لكنها من جهة تمنح التجّار هامشاً واسعاً في تحقيق الأرباح يجعل من هذه الرقابة شكليّة.