يؤشر اسم مناورة «يوم القيامة» التي يعدّ لها سلاح البر في جيش العدو إلى أكثر من معطى وتقدير حول حجم المخاطر الحاضرة لدى المؤسسة العسكرية، وإلى الخيارات التي يعمل عليها في حال وجدت «إسرائيل» نفسها مضطرة لخوضها. وهو ما أشار إليه قائد سلاح البر في جيش العدو اللواء تامير يدعي، في مقابلة مع موقع «واللا» العبري، بالقول إن المناورة ستُنفذ في اليوم الذي يأتي الأمر لمهاجمة المشروع النووي في عمق أراضي العدو لمنع إطلاق آلاف الصواريخ والقذائف الصاروخية من لبنان.يكشف هذا المستوى من الإعداد تقدير الجهات المختصة لحجم المخاطر المتعاظمة في البيئة الإقليمية، وكان آخر تجلياتها المعادلة التي فرضها حزب الله وأدّت إلى خضوع «إسرائيل» لمطالب لبنان في ملف الترسيم البحري تحت تلويح المقاومة بخيارات عملياتية ولو أدّت إلى وقوع حرب. وهو ما أقرّ به قائد سلاح البر بالإشارة إلى أن جيش العدو «أمام تحدّ تاريخي» يفرض عليه أن «يتطور من جيش محلي يحمي حدود الدولة إلى قوة إقليمية تشارك في كبح دولة عظمى إقليمية وعدوانية» في إشارة إلى إيران وحلفائها أيضاً. وأقرّ يدعي بأن الخطر الذي تمثله الجمهورية الإسلامية على إسرائيل ينبع من تصميمها ودفعها بكل قوة لإقامة طوق عسكري وناري في محيط كيان العدو و«إقامة قواعد عسكرية في لبنان وسوريا واليمن والعراق وقطاع غزة وأماكن أخرى لتهديد إسرائيل».
تقديرات العدو لآفاق المخاطر المستقبلية تكشف أيضاً عن فشل الخيارات والرهانات السابقة التي اعتمدتها الولايات المتحدة وإسرائيل (من خلال المعركة بين الحروب) في كبح هذا المسار والحؤول دون تشكّله. كما يحضر لدى قادة العدو التقدير بأن مواصلة هذا المسار التراكمي في اتجاه تصاعدي قد يصل في وقت ما إلى تهديد وجودي.
هذه القراءة تفرض على جيش العدو، وفق منظور قيادته، إحداث تغييرات تناول يدعي بعض ملامحها، من ضمنها «الشروع في واحدة من أكثر المناورات تعقيداً وعمقاً في تاريخ الجيش، وستكون العيون شاخصة بشكل أساسي على لبنان، حيث سيُطلب من الجيش الإسرائيلي وقف إطلاق آلاف الصواريخ يومياً باتجاه الجبهة الداخلية الإسرائيلية». ولتحقيق هذه الغاية، ستكون مهمة الجيش الإسرائيلي «هزيمة الجيوش غير النظامية» التي تصفها «إسرائيل» بالإرهابية «على الحدود وفي العمق».
ولم يُخف يدعي المفهوم الذي خلصت إليه قيادة العدو منذ ما بعد حرب 2006، وهو أنه «لا توجد طريقة يمكنك من خلالها التغلب على عدو من دون القيام بمناورة في النهاية». لكنه تجاهل المخاوف التي تحضر لدى صناع القرار في كيان العدو بأن خياراً كهذا يستبطن إمكانية تحوله إلى كمين استراتيجي للقوات البرية، وهي حقيقة أدركها قادة العدو وتجسَّدت في حرصهم تجنب هذا الخيار في كل المواجهات ومحطات الاختبار في مواجهة حزب الله، كما في مواجهة المقاومة في قطاع غزة.
ولفت قائد سلاح البر إلى معطى مهم عندما أكد أن الجيش الإسرائيلي «يبني قوته ليس فقط للتهديد من لبنان وإنما للتهديد المتنامي في سوريا، والذي سيستند إلى دروس الحرب الأوكرانية - الروسية ونموذج حزب الله في لبنان». وهو ما يستبطن إقراراً بأن «المعركة بين الحروب» لم تنجح في كبح التهديد الذي تشكّله الجبهة السورية، وبأن قدرات سوريا وحلفائها في حالة تعاظم رغم كل ما تشهده من اعتداءات. وهذا الإقرار ليس الأول، بل عبّر عنه أكثر من مسؤول عسكري رفيع بمن فيهم قائد المنطقة الشمالية اللواء امير برعام الذي يتولى الآن منصب نائب رئيس أركان الجيش، وغيره.
مع ذلك، من المهم الإشارة إلى مجموعة تقديرات وحقائق في هذا المجال:
من الواضح أن إعداد هذا المستوى من المناورات، «مناورة يوم القيامة»، لا علاقة له بمستجد ظرفي مُحدَّد وإنما بتقدير المؤسسة العسكرية لاتجاه المخاطر وتصاعدها في بيئتها الإقليمية. ومن هذه الزاوية هو مؤشر يكشف تقدير قيادة العدو لما ينتظر «إسرائيل» من تحديات ومخاطر في المنظور والبعيد.
في المقابل، تحتاج «إسرائيل» إلى ترميم صورة ردعها التي تضررت في مواجهة حزب الله بشكل جوهري، انطلاقاً من المفهوم الذي عبَّر عنه يدعي بأنه «لا يوجد ردع من دون تهديد حقيقي، ومن دون قدرة موثوقة ضد إطلاق صواريخ حزب الله». لكن الأهم هو ما أقرَّ به إزاء مخاوف مؤسسات القرار في كيان العدو من العملية البرية الواسعة، عندما اعتبر أن إرسال الجنود إلى عمق أراضي العدو «يكون بعد استنفاد كل الخيارات»، في إشارة إلى أن هذا القرار مرتبط في نهاية المطاف بوصول «إسرائيل» إلى مرحلة اللاخيار. وهذ نتيجة إدراك الإسرائيليين ما ينتظر قواتهم البرية من مخاطر في لبنان تعدها «قوات الرضوان» التي سيتجاوز ردها - كما يشير العدو نفسه - الدفاع إلى اقتحام الأراضي الفلسطينية المحتلة. وعلى هذه الخلفية، يأتي ما أشار إليه يدعي من إجراءات دفاعية داخل الحدود، ما يعكس تسليم جيش العدو بأنه سيضطر إلى خوض معركة دفاعية في شمال فلسطين المحتلة.
تقديرات المخاطر المستقبلية تكشف فشل الخيارات والرهانات السابقة من خلال المعركة بين الحروب


هكذا، تتجلّى حقيقة أن الإعداد لمناورة «يوم القيامة» لا يعني، بالضرورة، أنها ستُنفذ. لكن من واجب الجيش الإعداد لخيارات عملياتية تأخذ في الحسبان إمكانية الاضطرار إلى خوض مواجهات كبرى، وتقديم مروحة من الخيارات العملياتية أمام المستوى السياسي من ضمنها الخيارات العسكرية الكبرى. ومن أبرز تجليات هذه الحقيقة أن العدو لم يكد ينتهي من مناورة «شهر الحرب» التي أجراها قبل أشهر حتى فاجأه حزب الله بالمعادلة التي أدت إلى تحرير مئات الكيلومترات من مياه لبنان ورفع الحظر عن حق التنقيب والاستخراج. وقد ابتلع العدو بقيادتيْه السياسية والأمنية كل المواقف التي واكبت مناورة «شهر الحرب»، وأكدت أن إسرائيل تملك الجهوزية والقدرة على خوض حرب على أكثر من جبهة. فيما في لحظة الاختبار تراجعت أمام تصميم حزب الله ورسائله!
الإعداد للمناورات جزء تقليدي من برامج جيش العدو، وتلبية لمتطلبات عملياتية يفرضها تعاظم المخاطر، لكنّ الإعلان عنها والترويج لها وتقديمها كما لو أنها خيار الإنقاذ، كلّ ذلك يأتي تعبيراً عن حاجات ردعية ونفسية ومحاولة إعادة ترميم صورة إسرائيل إزاء جمهورها وأعدائها وأيضاً إزاء حلفائها. ويؤكد الانتصار الأخير لحزب الله بما لا يدع مجالاً للشك أن رسائل العدو التهويلية عقيمة التأثير على خيارات حزب الله في لحظات الاختبار المفصلي والمصيري.