كان يا ما كان في قديم الزمان لبنانان وحكومتان لبنانيتان يترأسهما رئيسان. إليكم ما كتبه أحدهما في يومٍ من الأيام:«بنهاية عهد الرئيس الجميّل، لم يستطع مجلس النواب الاجتماع لانتخاب خلف له. فأصدر الرئيس الجميّل مرسوماً بتشكيل حكومة من العسكريين برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون. فرَفضْتُ هذه الخطوة لجملة أسباب: منها أنّ الدستور لا ينصّ على تأليف حكومة عند شغور سدّة رئاسة الجمهورية، وإنّما ينصّ على قيام الحكومة القائمة بمهام رئاسة الجمهورية، ومنها أن الرئيس أمين الجميّل فقد شرعيّته عندما اختار أن يكون طرفاً في النزاع، وبالتالي فقراره تشكيل حكومة جديدة ليس شرعياً… بقِيَ من حكومتي خمسة هم: الرئيس عادل عسيران والدكتور عبدالله الراسي والأستاذ نبيه بري والأستاذ وليد جنبلاط.» - سليم الحص، عُصارة العمر، 2004.

(هيثم الموسوي)

طبعاً الأستاذ نبيه بري بقي مذّاك أستاذاً، والأستاذ المذكور الآخر كان وما زال بَيكاً، لا بل ورّث بيكاً آخر وإن لم يرتقِ بعد ليكون عموداً للسماء، لكنّ القصة في مكان آخر.
ارتبط اسم ميشال عون باسم سليم الحص في حقبة نهاية الحرب الأهلية اللبنانية واتفاق الطائف، بل تتوأم الرجلان رئيسين لحكومتين لبنانيتين متوازيتين في حقبة ما سُمِّيَ بنهاية التاريخ، وباتا عدوَّين رغم أوجه التشابه بينهما التي أظهرتها السنوات والعقود التي تلت فترة حكومتَي «الشرقية» و«الغربية». فهما تشاركا الخصومة للحريرية التي طغت على المشهد السياسي اللبناني بعد الطائف. كما أنهما يتشاركان اليوم، ومنذ لقاء كنيسة مار مخايل، الموقف الثابت تجاه المقاومة. لكن رغم التلاقي في الكثير من القضايا، لم يلتقِ الرجلان على الساحة السياسية منذ حقبة اللبنانَين، إذ تقاعد الحص بعد هزيمةٍ انتخابية مقابل حاكم الأمر الواقع في حينها غازي كنعان، ولم يعد عون إلى الملعب إلا بعد رحيل (أو ترحيل) كنعان عن هذه الأرض. تغيّر الكثير في العقود الثلاثة التي تفصل الزمنين، لكن ظروف اليوم على كوكبنا توحي باستئنافٍ لتاريخ قيل إنه انتهى يوم انتصر الأمريك وعَولمتهم على السوفيات وأمميتهم في حربٍ صنفت بالباردة.
خروج عون الأول من قصر بعبدا كان هزيمة للبعض وانتصاراً للبعض الآخر من اللبنانيين، لكن ماذا عن الخروج الثاني؟ بعيداً عن المهاترات الإعلامية، كيف يقيَّم عهد ميشال عون الرئاسي الذي انتهى بفراغٍ قد يفوق الفراغ التي خلّفته حكومته العسكرية عند هزيمته أمام تسوية «السِّين - السِّين» المبارَكَة من الغرب الذي كان يخوض «حرب الخليج الأولى» على العراق؟
لا أظن أن عقول معظم اللبنانيين قادرة على العودة إلى بداية العهد عام 2016 وتذكُّر كلّ ما مرّ على البلد في السنوات الست الماضية. حرائق تشرين كانت منذ ثلاث سنوات فقط، أي أنه كان هنالك ثلاث سنوات أخريات من العهد، نصف عهد، حتى قبل اندلاع «الثورة» وما تلاها من وباء وانفجار. لا داعي لجردة أحداث، لكن بالإمكان القول إنه عهدٌ فشل في تحقيق الكثير من الآمال التي كانت معلّقة عليه من مناصريه. لم يأمل أحدٌ من محبي «الجنرال» أن تؤول الأمور إلى ما آلت إليه كهربائياً ومصرفياً وصحياً وغيرها. لكن ماذا حدث؟ لماذا باتت أبسط أمور الإدارة إعجازاً في «العهد القويّ»؟ لا شكّ أنّ العونيين الأقوياء وحلفاءهم الأقوى منهم حتى لم يكونوا جاهزين للمواجهة التي كانت تنتظرهم.
يحبّ الكثيرون المزايدة في موضوع الثورة، وبخاصة أولئك الذين يريدونها ثورة نقيّة «تشيل ما تخلّي». لكن هناك الكثير من الأسباب التي حدّت عدد الثورات الناجحة على هذا الكوكب في القرن الماضي إلى ما يمكن تعداده على أصابع اليد الواحدة. أعداء الثورة كُثُرٌ، والداخليون منهم أكثر من الخارجيين، ويظهرون تباعاً عندما تُهَدَّد مصالحهم. لا أحد يدّعي أن عهد ميشال عون كان ثورياً، لكن من أفشله تعامل معه على أنه كذلك. ليس هناك ما يسمّى «إصلاح وتغيير» في المنظومة، إما الانصياع أو المواجهة. ولا يمكن المواجهة الجزئية بل لا بد من أن تكون كلّية، أي «كلّن يعني كلّن»، لكن على مستوى المنظومة المهيمنة عالمياً. عندما تقرّر المواجهة لا بد من أن تأخذ في الحسبان أنك لا تواجه عملاء الداخل فقط، بل أن تتحصن للحصار الاقتصادي وماغنتسكي وجهنّم، لأنها آتية حتماً، ومن السذاجة التفكير بأنه يمكن التحايل عليها. عندها تكون الثورة. عهد ميشال عون لم يكن ثورةً، كما أنه لم يكن جاهزاً للمواجهة، لكنه مع ذلك واجه ولذلك حصل ما حصل.
لم يكن لسليم الحص حزب ولا حالة شعبية «حصّيّة»، كما أنه لم يحاول اغتيال غريمه. الرجل انسحب من الحياة السياسية إلى شقته المتواضعة في حيّ عائشة بكّار البيروتي. «توأمه» ميشال عون غادر قصر بعبدا في الأمس إلى منزلٍ حداثيّ التصميم في الرابية «منتصراً» بعد أن كان قد غادره مهزوماً قبل ثلث قرن. الانتصار هنا لا يقاس بالإنجازات بل بالمواجهة والصمود، ولا يتوّج إلا إذا ما استمرّت الحالة الشعبية «العونيّة». بعد «الترسيم»، ومع الدخول في الفراغ، يبدو وكأن العونيين ومن خلفهم حلفاء مار مخايل يريدون استراحة محارب. لا مواجهة، بل تسوية. لا بأس، ولا يزايدَنَّ أحدٌ على من خاض المواجهة. ولكن عسى أن يكون هذا العهد كرّس مبدأ المواجهة، وعسى أن يكون المواجهون أكثر جاهزيةً في المواجهة المقبلة، فلا خلاص من دونها، وإن كانت الحرية والسيادة والاستقلال صعبة المنال ضمن حدود هذا الكيان.