في الأسابيع القليلة الماضية، عقدت الأحزاب السياسية الفرنسية مؤتمراتها السنوية Congres de la rentree politique، وركزت في معظمها على تسارع وتيرة التضخم وانهيار القدرة الشرائية وتدهور سعر اليورو. ورغم التحديات، لم تحمل المؤتمرات جديداً باستثناء تفصيل شكلي تمثّل في تغيير حزب ماكرون اسمه من LAREM إلى Renaissance، وتحديد حزب التجمع الوطني موعد اختيار رئيس جديد للحزب خلفاً لمارين لوبان. وقد بدا واضحاً من خطابات القياديين في الـ Renaissance «انفساخ» ماكرون بين إرضاء اليمين في تشريع قوانينه، وكسب ودّ اليسار عبر تقديمات اجتماعية تعرف بـ«القوانين الجامعة»، رغم كلفتها على الخزينة، وتتمثل بضخ نحو خمسين مليار يورو في الاقتصاد لدعم نحو 12 مليوناً من محدودي الدخل، في وقت تواصل فيه الحكومة تحديد سقف لأسعار الغاز والكهرباء ما سيكلفها عام 2023 أكثر من 45 مليار يورو. يأتي ذلك بعد خسارة ماكرون الزخم الشعبي في الانتخابات الرئاسية، كما خسر الأغلبية التشريعية في الانتخابات النيابية.
أما خارجياً، فيبدو المشهد كالآتي:
- أوروبياً، سبقت إيطاليا، مثلاً، فرنسا في إيجاد حلول جزئية لأزمة الطاقة عبر حصولها على حصة الأسد من الغاز الجزائري. وإذا كان ماكرون يسعى، بعد تقاعد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وإطاحة رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، ليكون زعيم أوروبا، فقد وجّهت الحرب الأوكرانية صفعة كبيرة لهذه المساعي بعدما فضحت محدودية القدرات الفرنسية عسكرياً ومالياً. كانت كييف تنتظر من باريس 225 مدفعاً فرنسيّاً Ceasar فلم يصلها إلا 15، ولم تستطع فرنسا استعادة دورها القيادي داخل حلف شمال الأطلسي حيث تدير الولايات المتحدة العمليات. ورغم «احتفال» ماكرون بتمركز 250 جندياً فرنسياً في رومانيا تحسّباً لتمدد الحرب إليها، لم ينجح الفرنسيون في التأثير بأي شكل في مجريات القرار الدولي الخاص بتنظيم الملاحة من المرافئ الأوكرانية وإليها. وتكفي هنا المقارنة بين دور كل من فرنسا وتركيا في هذا النزاع لتكوين صورة واقعية عن فشل ماكرون.
- في إفريقيا، انسحبت القوات الفرنسية من مالي، وأعادت تموضعها على عجل في النيجر بعدما أفقدها شبه الانقلاب في تشاد نفوذها في هذا البلد أيضاً حيث - كانت - القاعدة المركزية للقوات الفرنسية في الساحل الإفريقي، علماً أن إعادة التمركز على عجل تعكس فشلاً في التخطيط واستباق التحولات. وإذا كان ماكرون قد سارع إلى الهروب من مالي وغينيا وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى وتشاد، فقد كانت هناك في المقابل سرعة استثنائية في ملء الفراغ من شركة Wagner الروسية والمستثمرين الصينيين والملحقين الثقافيين والتجاريين الأتراك. فما كاد إمبراطور الموانئ الفرنسي بالّورا يعلن انسحابه الكامل من قطاع إدارة الموانئ في إفريقيا حتى كانت الشركات الصينية والإماراتية والتركية تحلّ محلّه في إدارة هذه الموانئ وتشغيلها.
- في آسيا ومنطقة المحيطين الهادئ والهندي، لن يعوّض البدل المالي لفرنسا خسارتها العقد مع أستراليا للتموضع على الضفاف الشرقية للمحيط الهادئ، في ظل التصعيد بين الولايات المتحدة والصين في الملف التايواني.
- أما مع العالم العربي، فقد استقبل ماكرون، بين نهاية تموز ومنتصف أيلول، الرؤساء: الإماراتي والمصري والفلسطيني ووليّ العهد السعودي وملك الأردن، وقام بزيارة رسمية استمرت ثلاثة أيام للجزائر. وبعيداً عن البيانات الرسمية التي تؤكد على قوة العلاقات، يمكن تأكيد الآتي: العلاقة مع المغرب سيئة جداً. مع الجزائر، عادت المياه إلى مجاريها الدبلوماسية، لكن لا فرنسا مستعدة لحل المطلب الجزائري الأساسي بتسهيل منح التأشيرات للجزائريين، ولا الجزائر مستعدة للتفريط بنقاط قوتها الاقتصادية كمنتج وموزع للغاز. ومع مصر، كثرت المشاريع الفرنسية بعد الاتفاق على برنامج دعم بين مصر وصندوق النقد، وزار السيسي باريس أربع مرات، لكن الاستثمارات الفرنسية في مصر لم يكن لها أثرها السياسي في ملف حيويّ جداً للفرنسيين كالملف الليبي.
أما مع الدول الخليجية، فالعلاقة الفرنسية - الإماراتية أكثر من جيدة، ومع الكويت أيضاً حيث أنشئت أخيراً مجموعة Think Tank فرنسية باسم Global Diwan يشرف عليها الأمين العام السابق لوزارة الخارجية الفرنسية موريس غوردو – مونتاغن. ومع سلطنة عمان وقطر، العلاقة إيجابية لكن محدودة جداً رغم زيادة الفرنسيين استيرادهم للغاز القطري. أما مع السعودية التي يصطحب الرئيس الفرنسي في زياراته ولقاءاته مع مسؤوليها مديري الشركات والمستثمرين الفرنسيين، فإن التعاون ما زال متواضعاً جداً، ويذهب ماكرون في تودّده للسعوديين إلى حدّ دعم ترشيح السعودية لاستضافة مؤتمر المعارض الدولية عام 2030 رغم وجود منافسين أوروبيين لهذا الترشيح. ومن أبرز مساحات التعاون الفرنسي - السعودي المشترك، لبنان حيث يبلغ مجموع الأموال في الصندوق المشترك بين البلدين للتدخل في لبنان 63 مليون يورو، أنفق 19 مليوناً منها حتى الآن عبر جمعيات المجتمع المدني التي تخوض الانتخابات وتنشئ منصات اعلامية ويكدس أصحابها الثروات. ومع ذلك، فإن السعوديين يراعون الفرنسيين لكنهم لا يلتزمون معهم بخريطة عمل واضحة أو مشروع مشترك. أما العراق، فتمثل العلاقة الاقتصادية معه النموذج المثالي بالنسبة إلى ماكرون، حيث استحصلت شركة «توتال» على عقد بقيمة 27 مليار يورو لاستخراج الغاز.
بناءً على كل ما سبق، يمكن الوصول إلى لبنان حيث يحدّد المطّلعون خمسة اتجاهات رئيسية بالنسبة إلى الفرنسيين:
1- تطوير التواصل وبناء الثقة أكثر فأكثر مع حزب الله، باعتبار أن تجارب التصادم معه لم تحقق لخصومه أيّ نتائج إيجابية.
2- التعاون مع السلطات الرسمية لتفادي الانفجار الأمني، من دون أن يتّضح سبب الخشية الفرنسية بعيداً عن أسطورة غزو النازحين لأوروبا انطلاقاً من الشواطئ اللبنانية.
3- تكثيف التعاون مع السلطات الرسمية والدول المانحة وصندوق النقد للوصول إلى الاتفاق المنتظر منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولا يرى الفرنسيون حتى اليوم ضوءاً ما في نهاية النفق، ويقولون بصراحة إن تشكيل حكومة جديدة أو تجديد الثقة بالحكومة الحالية وحتى انتخاب رئيس جديد لن تكون كافية، وأن المطلوب أداء تشريعي مختلف بالكامل لإقرار الاتفاق مع صندوق النقد. وهم يؤكدون وفق البرقيات الدبلوماسية أن لا شريكَ لبنانيّاً لهم في السعي لتحقيق هذا الهدف غير الحزب.
4- التطلع إلى دور كبير لشركة «توتال» في حال الوصول إلى اتفاق الترسيم، يضمن للفرنسيين موقعاً نافذاً في مجال التنقيب على المتوسط.
5- رغم الخشية الفرنسية على الاستقرار اللبناني، ورغم التدخلات البطريركية الحادة مع الرئيس الفرنسي مباشرة، يتمسك الفرنسيون برفض عودة النازحين السوريين إلى سوريا، وتواصل باريس استخدام نفوذها في المحافل الدولية لتمويل اندماج النازحين في المجتمع اللبناني بدل تمويل عودتهم. وهنا أيضاً لا يبدو الموقف الفرنسي مفهوماً في ظل إجماع المطّلعين على أن «سيناريوات استخدام النازحين» سقطت جميعها ومصلحة المناوئين للدولة السورية تقتضي عودتهم فوراً إلى سوريا.
مقاربة الموقف الفرنسي تجاه لبنان غير ممكنة من دون المرور بكِتاب الصحافيين الفرنسيين جورج مالبرونو وكريستيان شينو «الانحدار الفرنسي» (الصادر بالعربية عن «دار الزمان»). ففي مقابلتهما مع رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد، يقول الأخير إن «فرنسا وصلت إلى لبنان في الوقت المناسب»، وقد كان «اعتراف ماكرون بوجود حزب الله ودوره في المنطقة أمراً بالغ الأهمية بالنسبة إلينا». ينقل مالبرونو وقائع اجتماع المسؤولين اللبنانيين مع الرئيس الفرنسي في قصر الصنوبر، متوقفاً عند أسف سمير جعجع وسامي الجميل على غياب مسألة سلاح حزب الله غياباً تاماً، متسائلين عن إمكانية إعادة بناء استراتيجية نهوض لبنان من دون الحديث عن هذا السلاح، فما كان من ماكرون سوى الرد حرفياً: «أنتم ما فتئتم تتحدثون عن سلاح الحزب منذ سنوات، إذا وصلتم إلى نتيجة عليكم إخباري»، مع الإشارة إلى أن السفير مصطفى أديب الذي كان وزير الخارجية عبد الله بوحبيب يتطلّع إلى تعيينه أخيراً مندوباً للبنان لدى الأمم المتحدة في نيويورك حصل على مساحة مهمة في الكتاب، حين أشار أحد المصادر إلى أن أديب كان «رجل الاستخبارات الفرنسية منذ كان موظفاً لدى نجيب ميقاتي»، وهو كان يستفيد من وجوده في الخارجية لإرسال البريد الدبلوماسي اللبناني إلى الفرنسيين.
أما الأهم من هذا كله فهو مذكرة «تحديد نطاق العمل» التي وجّهها مكتب الوزير جان إيف لودريان لرسم سياسة الخارجية الفرنسية في ما يخص لبنان. ولا يمكن الخوض في أي نقاش في ما يخص السياسة الفرنسية ومواقفها في لبنان من دون أخذ هذه المذكرة في الاعتبار. وفيها أن الهدف الفرنسي الأول هو «التصدي للحلف الموالي لسوريا»، يليه، ثانياً، «دعم الفريق السيادي»، وثالثاً: الضغط أكثر فأكثر على جبران باسيل وحزب الله، مع العلم أن وكيل وزارة الخارجية الأميركية السابق دايفيد هيل أكد لمالبرونو في الكتاب نفسه أنه يعمل «عن كثب مع الفرنسيين ونتشارك الهدف نفسه». أما سبب تخلّي الفرنسيين عن سيف العقوبات فهو تعارضها مع الأهداف الأساسية في مذكرة وزارة الخارجية، حيث لا يمكن للعقوبات أن تستثني «الفريق السيادي» على نحو يريح «الحلف الموالي لسوريا»، وخصوصاً باسيل والحزب. في ظل دوران الكتاب الدائم حول نقطة محورية تتمثل بكره الخارجية الفرنسية الشديد لباسيل، بوصف عناده المسؤول الأول عن عرقلة الطموحات الفرنسية والخطط والمشاريع.
يعتقد ماكرون أنه قادر على أن يأخذ من حزب الله بالسلم ما عجز الأميركيون والإسرائيليون والخليجيون عن أخذه بالحرب


وعليه، يستخلص من هذه الجولة الواسعة أن فرنسا ماكرون في انحدارها السريع خسرت مواطئ النفوذ التاريخية لها في معظم أنحاء المعمورة، ولم يبق لها مساحات يمكنها حفظ ماء وجهها فيها إلا العراق ولبنان، حيث لإيران قدرتها على التسهيل أو العرقلة. مع الأخذ في الحسبان أن باريس من العواصم القليلة في العالم التي لا تزال تتعامل بحقد وعدائية مع الدولة السورية، وتصنف السياسيين في لبنان على أساس علاقتهم بالرئيس السوري بشار الأسد. وإذا كان ربط كل ما يحصل إلزامياً في هذه المرحلة بالملف الرئاسيّ، فإن الخارجية الفرنسية ما زالت عند مذكرتها القائلة بدعم «الفريق السيادي» و«التصدي للحلف الموالي لسوريا» و«إضعاف باسيل والحزب»، مع الحرص على الذهاب في مقارعة باسيل حتى النفَس الأخير من جهة، وعلى أفضل العلاقات الممكنة من جهة أخرى مع حزب الله إيماناً من ماكرون بقدرته على أن يأخذ من الحزب بالسلم ما عجز الأميركيون والإسرائيليون والخليجيون عن أخذه بالحرب. وهي معادلة «مشربكة»، لكن واضحة في عجزها بالتقدم بالدور الفرنسيّ سواء بالاستحقاق الرئاسيّ أو غيره خطوات جدية إلى الأمام، حيث من الواضح أن الفرنسيين يدّعون التعامل بواقعية مع لبنان، لكن «استراتيجية الانحدار» تمنعهم من أن يكونوا لاعبين فاعلين أو مؤثّرين فعلاً، سواء في الاستحقاق الرئاسيّ أو غيره.