ثمانية أشهر مضت، بين الإعلان عن مشروع الصندوق الفرنسي السعودي «الإنساني» في كانون الأول الماضي وإعادة التأكيد على إطلاقه في نيسان الفائت، لتتمخّض في بداية الشهر الماضي الخطوة الأولى في مجال تمويل ودعم مؤسسات ومشاريع «إنسانية» في لبنان، عندما أُعلن عن مشروع «تحسين جودة خدمات الرعاية الصحيّة في مستشفى طرابلس الحكومي». وفي 5 تموز الفائت، وقّع كل من السفيرَين السعودي وليد البخاري، والفرنسية آن غريو ورئيسة بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في لبنان سيمون كازابيانكا إيشليمان اتفاقية تمويل بقيمة 12.5 مليون يورو مشترك بين «الوكالة الفرنسية للتنمية» و«مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية»، في حضور وزير الصحة فراس الأبيض، الذي لا دور له في الإشراف على المشروع كوزير وصاية، إذ ستتولّى اللجنة الدولية للصليب الأحمر تنفيذه بالكامل. وبحسب المعلَن، ستموّل السعودية المشروع بحوالي 9 ملايين يورو عبر مركز الملك سلمان، فيما أعلنت الوكالة الفرنسية للتنمية أنّ المشروع سيمتدّ من عام 2022 إلى عام 2025 وتُقدَّر تكلفته بحوالي 21.5 مليون يورو. هذا هو المشروع الأول، ويُتوقَّع أن تليه مشاريع أخرى، تستهدف أربعة قطاعات هي: التعليم والصحة وأمن الطاقة والأمن الغذائي. وكان الفرنسيون والسعوديون قد أعلنوا أنّ هذه المشاريع ستستهدف المواطنين اللبنانيين بمعزل عن مؤسسات الدولة اللبنانية، التي طالبها كل من ماكرون ومحمد بن سلمان في قمة جدة، في كانون الأول الماضي، بـ«تنفيذ إصلاحات» كشرط للحصول على مساعدات بشكل مباشر. عند تعداد باريس والرياض «الإصلاحات» المطلوبة، كان يُذكر «تنظيم انتخابات شفافة ونزيهة»، وقد أكّدتا على هذا المطلب في فترة الوعود قبل أن يبدأ تنفيذ أول مشروع ضمن «الصندوق السعودي – الفرنسي المشترك». أما اليوم، وبعد إنجاز الاستحقاق الانتخابي النيابي بأشهر، وبدء أول مشروع للصندوق المشترك، وانطلاق بازار استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية، عاد الفرنسيون والسعوديون لتكرار مطالبهم بخصوص «الإصلاحات» المطلوبة واشتراط تنفيذها للحصول على التمويل.
رغم أنّ ما أعلنته كلٌّ من فرنسا والسعودية من مساعدات ومشاريع «إنسانية» حتى الآن يُصنَّف ضمن الإسهامات المتواضعة، إلا أنّ هناك تغطية ودعاية إعلامية كبيرة تحاول تضخيم الدور «الإغاثي» المشترك لباريس والرياض. وتجربة الدولتين في لبنان تثبت أنّ هناك فرقاً كبيراً بين ما تعلنانه من دعم أو مساعدات وما تنفقانه فعلياً على الأرض. مثلاً، تدّعي «الوكالة الفرنسية للتنمية» أنّها صرفت في لبنان حوالي 1.23 مليار يورو منذ 1999، بينما تشير الأرقام - بعد التدقيق - الى أنّ الوكالة الفرنسية صرفت ما مجموعه 586 مليون يورو، منها 264 مليون يورو كمنح (أكثر من 70% منها ذهب للاجئين السوريين) وحوالي 322 مليون يورو كقروض.

انقر على الصورة للاطلاع على الملف كاملاً

في حزيران عام 2017، أصدر الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز أمراً لـ«مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية» - الذي كان قد تأسّس قبل عامين - بإنشاء منصة بيانات المساعدات السعودية لعرض «ما تقدّمه المملكة من مساعدات إنسانية متنوعة بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة». وفي شباط 2018، دشّن الملك سلمان منصّة المساعدات السعودية التي قيل إنّها صُمِّمَت «بناءً على المعايير الدولية في التسجيل والتوثيق المعتمدة لدى لجنة المساعدات الإنمائية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية DAC-OECD ومنصّة التتبّع المالي للأمم المتحدة UNFTS ومبادئ الشفافية الدولية (IATI)». طبعاً أطلق الإعلام والذباب الإلكتروني السعودي حملة تطبيل لإطلاق المنصة، وشرع المتسعودون ومرتزقتهم بالتغنّي بعطاءات وكرم «مملكة الخير»، مستشهدين بأرقام المنصّة لتذكير شعوب الدول التي منَّ عليها «ولاة الأمر» بالعطاء والمساعدات، والتأكيد على أنّ «لحم أكتافهم من خير السعودية».
بحسب أرقام منصّة المساعدات السعودية، قدّمت الرياض للبنان بين عامَي 1975 و2022 مساعدات ومنحاً بلغت 2,752,455,111 دولاراً أميركياً.
هذا الرقم صادر عن النظام السعودي الرسمي، والملاحظة الأهم هنا أنّ مبلغ الـ 2.75 مليار دولار، كمجموع عام للمساعدات للبنان خلال الـ 47 عاماً التي مضت، لا يكاد يعادل عُشْر الرقم الذي يردده أتباع النظام السعودي (حوالي 20 مليار دولار منذ اتفاق الطائف) عند حديثهم عن «تفضُّل مملكة الخير» على لبنان. اللافت في قاعدة بيانات أرقام التمويل المنشورة في موقع المنصة السعودية أنّ هناك فرقاً بين الخانات التي تُعرَض في محرّك البحث، وما يمكن أن يحصل عليه المتصفّح عندما يحمّل نتيجة البحث بصيغة Excel. مثلاً، تغيب خانتا «شركاء التنفيذ» و«المنطقة» التي نُفِّذ فيها المشروع من ملف الإكسل. الملاحظة الأخرى هي في نَسْب مشاريع موّلتها السعودية قبل عقدَين لمركز الملك سلمان كجهة منفِّذة. على سبيل المثال، ذُكِر في قاعدة البيانات أنّ مركز الملك سلمان موّل بين 10 آب 2006 و10 شباط 2007 الهيئة العليا للإغاثة في لبنان بمبلغ 256,000 دولار لـ«تقديم الخدمات الطبية للمرضى النازحين في لبنان»، مع أنّ مركز سلمان تأسّس في أيار عام 2015!
بحسب البيانات السعودية، موّل مركز الملك سلمان بين 2006 و2007 الهيئة العليا للإغاثة في لبنان مع أنّ المركز تأسّس عام 2015


ومنذ سنوات، تعمل السعودية على تضخيم مشاريعها «الإغاثية» في لبنان ومحاولة توظيفها ضمن خانة «الأمن الغذائي»، من خلال توزيع ربطات الخبز على اللاجئين السوريين، وأخيراً على اللبنانيين في بيروت وطرابلس وعكار وصيدا، بالإضافة إلى مشاريع توزيع التمور الفائضة عن حاجة السوق المحلّي السعودي. وضمن مشاريع «الصندوق السعودي – الفرنسي المشترك»، تفيد معلومات «الأخبار» بأنّ الفرنسيين والسعوديين اتفقوا على أن تقدِّم الرياض التمويل الذي من المفتَرَض أن تقدّم باريس ما يماثله، على أن تتولّى الأخيرة التنسيق اللوجستي وتحديد المستفيدين من المشاريع. وفي التفاصيل، سيحصر الفرنسيون الجهات المنفّذة المستفيدة من المشاريع بـ 11 منظمة محلية ودولية عاملة في لبنان، بينها كاريتاس، وفرسان مالطا، والمقاصد، وفرح العطاء (التابعة للنائب التغييري ملحم خلف)، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومؤسسة عامل (التي يطمح صاحبها كامل مهنّا لنيل جائزة نوبل للسلام)، ومؤسسة رينيه معوض (التابعة للمرشح الرئاسي ميشال معوض).