ما كانت الأحداث يوماً إلا مترابطة وذات صلة. كانت دوماً كذلك، ولا تملك غير أن تبقى. وكل «قراءة» مغايرة لا تنمّ إلا عن جهل أو عن تواطؤ أو عن الاثنين معاً. وعليه، فإن لكل حدث سياقه الذي يربطه بما سبق أو سيلي. فالأحداث، ورغماً عن الرغبات أو الأماني، تجرّ بعضها بعضاً.في المشهد اللبناني المأزوم بفعل الحصار الأميركي - الإسرائيلي الضاغط، والمعطوف على أزمتي النظام والكيان المتفاقمة يوماً بعد آخر، تتعدد الألاعيب ولا يتغير اللاعبون. وإن تغيروا فإن هدف اللعبة لا يتغيّر. والهدف «المقدّس»، وباختصار شديد، هو هو: فتح البلد أمام العدو، و«تحريره» من عناصر القوة وأسباب المنعة وغيرها من عناوين العزّة التي صنعتها المقاومة وشعبها العابر للصغائر والضغائن.
الفجور السياسي اللبناني الذي لم ينقطع، والذي يتصدّر مشهده المتجدّد اليوم، البطريرك بشارة الراعي، أبعد بكثير من أموال إسرائيلية مهرّبة. الفجور السياسي هذا، الذي طبع نهايات الأسبوع الماضي، يأتي كاستكمال للفجور الاقتصادي المستمر والذي نال من مدّخرات الناس وجنى أعمارهم، ويندرج في سياق واضح المعالم، مكشوف الأهداف والمرامي. وهدفه الأول، وبمعزل عما يقال أو يدور في خلد القائمين به، أو نيّات المحرّكين له، يصبّ، ومن دون أدنى لبس، في المصلحة المعادية للبنان.
ففي لحظة الهلع الإسرائيلي المقيم، والذي عاد واشتعل بعد الخطاب الأخير لسيّد المقاومة اللبنانية حسن نصرالله، وجدت إسرائيل نفسها، ومن خلفها راعيها الأميركي، في ورطة حقيقية. فلا هي بقادرة على الاستمرار في لعبة حرق الوقت وإلهاء اللبنانيين بلعبة «الخطوط» السمجة، وفي الوقت نفسه، فإنها عاجزة عن ردّ التحدي وخوض الحرب لسبب واضح وجلي، هو معرفتها بالمخاطر الوجودية التي قد تنجم عنها، خصوصاً إذا ما ذهبت، وهي لا بد ستذهب، بالاتجاهات التي تعد لها المقاومة لجهة توسيع رقعتها وشمولها لبقية أطراف «المحور» الممتد من فلسطين إلى اليمن مروراً بسوريا والعراق... وحتى إيران. فجدّية التهديدات التي أطلقها السيّد نصرالله في الدفاع عن حقوق لبنان، واستعداد المقاومة لكل الاحتمالات بما فيها الحرب، تركت أثراً مزلزلاً في إسرائيل، عبّر عنه الصمت الرسمي المطبق، وبدء الحديث، في واشنطن وتل أبيب، عن الشروع في العمل على استنباط مخارج سياسية لأزمة الترسيم.
أهمية الخطاب الذي يمكن المجازفة والقول إنه شكّل قفزة كبيرة تمهد لكسر الحصار المضروب على لبنان، وتقويض مرتكزاته، أربكت الكيان الإسرائيلي وسيّده الأميركي أيما إرباك. فمعادلة «الغاز مقابل الغاز» الاستراتيجية، والتي كانت أساس الخطاب، لن تتأخر نتائجها في الظهور سواء بالحرب أم بالسياسة، وهو ما يضع لبنان في موقع مغاير لكل التمنيات الأميركية والإسرائيلية التي راهنت على الحصار والفوضى للنيل من المقاومة. وثمة أهمية إضافية لا تقل عن الأولى وهي أن الخطاب جاء في لحظة دولية وإقليمية سمتها التغيير العميق في موازين القوى الدولية، وبدء تشقّق، بل وقرب انهيار الترسيمات التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية وهي، بالنسبة للمقاومة، لحظة أكثر من مؤاتية، خصوصاً مع ضيق هامش المناورة الإسرائيلي الذي فاقمه حسم تموضعها المادي إلى جانب الغرب في حربه الوحشية على روسيا. أما محلياً فإن أثر الخطاب كان واضحاً في أنه كشف أدوار بعض اللبنانيين الذين توزعوا بين من حاول اللجوء إلى التهويل على لبنان وبين من مارس المزايدة والتصعيد اللفظيين لمحاولة تحقيق هدف من اثنين، إما إحراج المقاومة وتكبيل يديها، أو حتى إلى دفعها إلى التهور. لكن يبقى أن الأهم من كل ما سبق أن الخطاب وضع حداً نهائياً للمناورات والألاعيب التي هدفت إلى تمرير مخطط الاستيلاء على الثروة البحرية، وأنهى عبثاً لبنانياً مشبوهاً وتافهاً كاد أن يطيح بالحقوق اللبنانية، وأظهر أهمية المقاومة وفعالية دورها الحاسم في استنقاذ الحقوق وردع العدو وتكبيله. في هذا السياق المتغير دولياً، والقلق إقليمياً، واشتداد وعمق المأزق الإسرائيلي يمكن فهم وقراءة السياق الدولي والإقليمي الراعي للفجور الوقح والمتجدد الذي طغى على المشهد اللبناني نهايات الأسبوع الماضي، وهدف إلى إرباك المقاومة اللبنانية وإطالة أمد الحصار السياسي والاقتصادي الأميركي المفروض على البلد، وربما أيضاً بما يخدم الحرب الغربية على روسيا وعلى غيرها من قوى العالم والإقليم دفاعاً عن هيمنة مديدة على العالم باتت مهددة بالتهاوي الوشيك والعظيم.
لكن مشكلة هذه المحاولة الجديدة أن العاجز لا يملك غير أن يستعين بالفاشل. وهذا العاجز، وهو هنا العدو، إنما يعاود الرهان على أدواته الصدئة إياها التي ثبت أن لا قيمة فعلية لها غير الزعيق تارة بالحياد وطوراً بالدفاع المباشر عن العملاء، وهو مضمون وجوهر ما قيل في بكركي يوم أمس.
إن العدو العاجز عن كسر الطوق السياسي والعسكري المحكم الذي فرضته كلمات خطاب نصرالله، والذي بات أمام معادلة الغاز بالغاز ربما يراهن، اليوم، على «العون» الداخلي اللبناني. الاستثمار الرخيص والمشبوه لمسألة ضبط أموال إسرائيلية مهربة، والفجور المأجور الذي يطبعه، هو الاختراع الجديد الذي يراد منه الرد على عناصر القوة اللبنانية، والتغطية على حقيقة عجز العدو وفشله في حرب الحصار المضروب على لبنان، كما أنه جزء من المأمورية الأميركية للتابعين والأذناب.
يمكن اختصار الصورة بأن هناك غباراً ينبغي تبديده، وزعيقاً ينبغي إسكاته بالأدلة الوطنية وهي كثيرة وكثيرة جداً.
لقد آن للفجور المأجور أن يتوقف. وليعلم أصحابه أو الزاعقين به أنه لن يقدم ولن يؤخر، ولن يساعد في استعادة ماضٍ لبناني مسؤول عن معاناة اللبنانيين. ثم أن من سارع إلى حماية رياض سلامة، بما يمثل ومن يمثل، ومنع ويمنع ملاحقته، غير مؤهل لإبداء الرأي في أصغر المسائل فكيف بمسألة حماية البلد وصون حقوقه.
سيبقى العميل عميلاً. ولن تنجح أردية العالم السوداء ولا عمائمه في التغطية على وضاعة مرتكبي العمالة وقذارة نفوسهم. بل أن أي محاولة للتغطية عليها أو لتبريرها هي شراكة موصوفة في الجرم لن يسمح لمرتكبيه بالإفلات مما ينتظرهم من المحاسبة اللائقة، التي بات من الواجب ألا تتأخر.