29 تشرين الأول من العام 1994 كان يوماً استثنائياً للمقاومة، كما للعدو. يومذاك، وثّقت المقاومة، لأول مرة، رفع رايتها على موقع إسرائيلي في جنوب لبنان، تمّ إسقاطه بيد المقاومين رغم الإمكانيات المتواضعة التي كانوا يمتلكونها، في مقابل كلّ تحصينات العدو لحماية جنوده؛ من أسلحة وآليات ودبابات ومواقع محاذية تُؤمّن سلامة الجنود، منها: «موقع الطُهرّة» فوق كفر رمان و«موقع علي الطاهر» فوق كفر تبنيت، اللذان سقطا مع سقوط «موقع الدبشة».
في سياق فعاليات «الأربعون ربيعاً»، أقام حزب الله مراسم رفع راية المقاومة الإسلامية في محافظة النبطية، فوق الموقع المعروف سابقاً بـ«موقع الدبشة»، ضمن سلسلة الأنشطة التي يقيمها من 20 حزيران لغاية 20 آب 2022. وحضرت المراسم شخصيات سياسية، وأخرى من قيادات المقاومة وفعاليات ثقافية وإعلامية، فيما شارك فيها أربعة أجيال مختلفة من المقاومة ـــ نسبةً لأربعينها، وعوائل الشهداء الذين شاركوا في عملية اقتحام «موقع الدبشة» واستشهدوا في فترات لاحقة. وقد كانت كلمة سياسية لرئيس كتلة «الوفاء للمقاومة»، النائب محمد رعد، ثمّ جرى رفع «الرّاية الكبرى لحزب الله» فوق المكان.


تعدُّ «عملية الدبشة» من أهم العمليات النوعية للمقاومة قبل التحرير، إذ شكّل اقتحام الموقع هزيمة عسكرية مدوّية للعدو، كونه كان أحد أكبر مواقعه خلال سنوات احتلاله الجنوب، إضافةً إلى تمركز لواءين من نخبته فيه: «غولاني» و«جعفاتي»، علماً بأنه أول موقع إسرائيلي يتمّ تصوير رفع راية المقاومة فيه، بعد تحريره.

يَروي مسؤول عمليات المقاومة وَقتذاك، أنه قبل تنفيذ العملية وبعد التحضير للاقتحام، حصل مُتغيِّرٌ ميداني لم يكن في الحسبان. تمّت مراجعة الأمين العام لحزب الله، السيّد حسن نصر الله، وكان جوابه الآية القرآنية: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًاً»، أي المُضي في الاقتحام. اقتحم أربعة مقاومين من سرية «النُّور» الموقع، وهي مجموعة استشهادية، أُطلق عليها لاحقاً اسم «سرية الشهيد سمير مطوط (جواد)»، بقيادة الشهيد علاء البوسنة (علي فياض)، ومشاركة مسؤول العمليات المركزية في المقاومة ومجموعات الإسناد. قتل المقاومون وجرحوا العديد داخل الموقع، ولاذَ من تبقى بالفرار تحت النار، فيما حيّدت وحدات الإسناد الناري المواقع المحاذية بنيرانها، وهي: علي الطاهر، الطُهرّة، القلعة، الشريفة، الزفاتة، وابل السقي. شاهد أهالي منطقة النبطية الدخان والنيران وهي تتصاعد من الموقع لأكثر من ساعتين. دخل أحد المقاومين إلى الدُّشمة الأولى، اغتنم هواتف وأسلحة وأشياء أخرى، ثم رُفعت راية المقاومة على الموقع، وقد كانت تلك المشهدية سلاحاً كاسراً بوجه العدو، لا يَقلُّ أهمية عن أي سلاح آخر.

استخدم الإعلام العبري تسمية «عملية العلم» للعملية، لما حفره رفع الراية في ذاكرة الإسرائيليين. ورغم أنه ليس الموقع الوحيد الذي رُفعت فيه المقاومة رايتها، كما فعلت في مواقع: سجد والبياضة وعرمتى ورويسات العلم... إلّا أن خصوصية هذا الموقع والإنجاز الذي حقّقته المقاومة يومها، جعلت منه «دُرَّة تاج» عمليات اقتحام المواقع. «انتصار الراية» طاردَ العدو أكثر من عشر سنوات، حتى العام 2006، إذ لم يستطع رغم مشاركة ألوية النخبة وكبار الجنرالات وكتائب الدبابات وسلاح الجو، والقصف ‏المدفعي والصاروخي، الدخول إلى مدينة بنت جبيل. ولم تنل كلّ قدراته العسكرية البريّة والجويّة من المقاومين. فشل العدو في الوصول إلى ملعب المدينة لزرع علمه في مكان «خطاب بيت العنكبوت» للسيد نصر الله. في النتيجة، هُزم العدو، هزيمة صارخة، في «معركة الراية».


بالعودة إلى «اقتحام الدبشة»، لم يُسجّل في العملية، على صعوبتها، أي جريح أو شهيد للمقاومة. حقّقت المقاومة نصرَين مُدوَّيين، الأول عسكري والثاني إعلامي. يومذاك نصبت كميناً إعلامياً إلى جانب العملية العسكرية. ففي اليوم الذي أعلنت فيه المقاومة اقتحام الموقع ببيان، لم تنشر أي مشاهد للعملية، حينها قام العدو بالرّد ببيان زعم فيه أن «جيشنا أفشل عملية الاقتحام وقتل المخرّبين». ساد جوٌّ من القلق بين أبناء المنطقة، لكن سرعان ما بدأت سيارات تجوب المناطق رافعة راية المقاومة وموزّعة الحلوى ابتهاجاً بنجاح العملية. فلم تمرّ ساعات، حتى فاجأت المقاومة العدو ببيان نزل كالصاعقة على رأس قياداته. أصدرت المقاومة بياناً ثانياً أعلنت فيه نيّتها نشر مشاهد اقتحام «موقع الدبشة» ودخول المقاومين إليه والسيطرة عليه. تسمّرَ الجنوبيون، كباراً وصغاراً، أمام شاشات التلفزة منتظرين نشرة أخبار «المنار»، أسكَتوا كلّ ضجيج حولهم. دحضت المشاهد النوعية للاقتحام والتقدّم والإسناد ورفع الراية مزاعم العدو. علَت صرخات المقاومين، على كلِّ الأصوات، وشكّلت ضرباتهم فضيحة لمصداقية العدو. تلك المشاهد التي وثقتها كاميرا «الإعلام الحربي»، كانت يومها، بحدّ ذاتها، عملية ثانية بنتائجها ومعانيها. كانت شيئاً من مسار الثقة والمصداقية التي بنتها المقاومة مع جمهورها. علماً بأن التأييد للمقاومة لم يكن عامذاك كما كان عليه في عامي 2000 و2006، وحتى يومنا هذا.

انتقدت وسائل إعلام عبرية تعامل الجيش مع ما جرى، وتحدّثت عن «ضربة لمصداقيته»، فيما استفاد سيّد الحرب النفسية، السيد نصر الله، من نكسة العدو، متحدثاً عنها في أول خطاب له بعد العملية، ليخاطب «المجتمع الإسرائيلي» ويُثبت له كذب قياداته. كتبت الراية بإبداع «عملية الدبشة» في وعي بيئة المقاومة وأعدائها، أرادت بشدّة أن يكون لجمهور المقاومة ما كان له آنذاك، من شعور بالحرية، وذكريات انتصار لرؤوس عالية، علَت كرايةٍ تُرفرِف مُظلِّلة هزيمة العدو.