لطالما مرّت هذه الفكرة على بال معظم من فكّر بالهجرة من هذه البلاد: "هيا نركب البحر". أن يصل الإنسان إلى مرحلة اختيار الخطر الشديد على البقاء في لبنان، فهذا لا يعني إلّا أمراً واحداً: البقاء أشدّ خطراً. أن يفكر في الأمر شابّ أو شابّة لا يحملان مسؤوليات على أكتافهما أمرٌ قد يبرّره البعض، أمّا أن يركب البحر وما فيه عوائل من أم وأب وأطفال لا يعيدنا إلّا إلى المقدمة الأولى: البقاء أشدّ خطراً. قصة طرابلس لا تبدأ بالكليشيهات اللبنانية تلك التي نراها بالمقاطع المصوّرة عن الكعكة الطرابلسية والحلاوة بالجبن ومطاعم السّمك، بل يمكن أن تكون الحروف الأولى لما يجري في تاريخ لبنان وماذا ترى الدولة في طرابلس، عكار، بعلبك، الهرمل، وغيرها من مناطق الأطراف التي لا تعرف الدولة إلّا على شكل حاجز ومداهمة وفاتورة.
30 % من سكان المدينة يعانون من الفقر المدقع (هيثم الموسوي)

نحن لا ننتمي إلى قلب هذا الوطن ولو كنّا سكّان مدنه الأساسية. لدينا حساسية عالية تجاه الفقر والفقراء. نعرف بوجودهم ولو لم نرَهم في المقاطع المصوّرة أو الصور التي تقول إنّ خمسينيات وستينيات القرن الماضي "كانت أيام عزّ"، ولو دقّقت فيها قليلاً لرأيت الطفل "العتال" أو ماسح الأحذية أو المرأة التي ترفع جرّة الماء من البئر ثمّ تحملها على رأسها أو كتفها صعوداً باتجاه القرية، هل هذه أيام عزّ؟

أمّ الفقير
قصة التهميش والفقر في طرابلس ستبدأ بمعاينتها عند وصولك إلى ساحة النور، مدخل طرابلس، من بسطات الخُضر والباعة المتجوّلين ونوعية المواد التي يبيعونها، ستدرك تماماً أنّك لست في مدينة تشبه مثيلاتها في الوطن نفسه. وعند ركوبك التاكسي ودفعك لتسعيرة لا يمكن مقارنتها بتسعيرة تاكسيات بيروت ستتأكّد من أنّ الفقر في المدينة شامل. تتجوّل قليلاً في أحيائها بعد وصولك إلى ساحة التلّ، صوب القبة وسوق الخُضر وباب التبانة، حيث ما زالت الجدران تحكي أيام القتال بين الجيران والإخوة، وكيف جُنّد أبناء المنطقة للتقاتل في ما بينهم دون طائل. توجه نحو "المينا" الآن، واستمع لأحاديث صيادي الأسماك وماذا يجنون من يومياتهم، ستشعر أنّ الهواء يخنقك لو عرفت أنّ المجتمعات هنا تعيش كما عاش أسلاف البشرية على الاكتفاء اليومي: في حال توفّق أحدهم بصيد، هناك طعام، أمّا إذا كانت الإجابة هي لا صيد، فلا طعام إذاً. كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه وكيف تطلب منه الالتزام بقانون ونظام؟
طرابلس لم تواجه بل قرّرت الرحيل عن هذه البلاد البخيلة عليها حتى بجواز سفر


الإنماء الغائب
أرقام طرابلس مخيفة ولا تعبّر إلّا عن نسيان وإهمال وتجهيل وإفقار لزيادة الاستغلال. 30% من سكانها يعانون الفقر المدقع، 67% عند خط الفقر، 66% من اليد العاملة الطرابلسية تجني أقل من دولار واحد يومياً. نسبة الأميّة هي الأعلى بين الشباب. طرابلس تنزف ولا تقف مكانها بل في تراجع مستمرّ إلى الوراء، شبابها المتعلم بين مهاجر وطامح للهجرة تتكلم عنهم السّردية اللبنانية بكل وقاحة لتقول: الشمال خزّان الجيش والقوى الأمنية اللبنانية. لم يسأل أحد عن سبب الإقدام على هذه الوظائف بالتحديد، أليس الفقر والعوز وغياب الإنماء؟ حتى في هذه الوظائف ألم تغيّب التنمية شباب الشمال عن الرتب العليا والمتوسطة؟ هذا وتسمى "العاصمة الثانية" للبنان وهي خارجة من حماية الدولة كلياً حتى من قبل من يدّعي تمثيلها، ففي عام 1997 ألغيت الحماية عن الصناعات الخشبية ما أدى إلى تدمير جزء كبير من اقتصاد المدينة القائم على ورش صناعة المفروشات المنزلية كما وأقفلت خدمةً للسّياسات نفسها مصفاة البداوي وتُرك مرفأ المدينة الأهمّ على المتوسط خلال كلّ العصور الماضية من دون استثمار وتطوير رغم أنّه يرتبط حيوياً بالداخل السوري وصولاً إلى بادية حمص. طرابلس اليوم بين فكَّي كماشة الإنماء الغائب والعداء مع جوارها العربي ما يجعلها عرضةً لكلّ المتاعب الاقتصادية كما الأمنية، المدينة التائهة هي لا لبنان الكبير يريدها ولا يمكنها العودة إلى متصرفية أو ولاية طرابلس.
طرابلس منهكَة، ليس بسبب أبنائها الذين يحاولون اجتراح المستحيل للبقاء وهم أصحاب الحرف والأعمال كصناعة الصابون وصياغة الذهب والزراعة، ولكن اليوم لا يزدهر فيها سوى أجهزة الدولة المعنية بالرقابة وكتابة التقارير، ويغيب كلّ ما عدا ذلك من جامعة وطنية مهملة ومتروكة ومدارس رسمية تقفل تباعاً وعدالة غائبة لدرجة جعلت الموقوفين سجناء إلى الأبد دون محاكمات، حتى لو تكلمنا عن تطرّف ديني في لبنان فأول ما يخطر على بالنا طرابلس رغم أنّ أهلها أبعد ما يكونون عن هذه المظاهر إلا ما تشتهيه الكاميرات من صور، ولو لم تكن هي مدينة الاعتدال والتسامح فكيف كانت ستتصرف مع كلّ هذا الجور الواقع عليها؟ لم تواجه بعنف بل قرّرت الرحيل عن هذه البلاد البخيلة عليها حتى بجواز سفر فحملت أولادها في مراكب تهريب لتوصلهم إلى أقرب نقطة يُعامل فيها الكائن البشري على أنّه إنسان، وحمل الطرابلسيون معهم في هذه الرحلات طرابلس في قلوبهم أينما حلّوا في العالم. أمّا لبنان ودولته فبقيا على الشواطئ يوزّعان الوعود بمنع الهجرات غير الشرعية من دون إصلاح حجر على رصيف.
ملاحظة: طرابلس من الناحية الإنمائية هي أفضل كثيراً مما هو موجود في المناطق الواقعة بعدها في عكار، وعليه نترك لك عزيزي القارئ المقارنة.