كل من الكتل الرئيسية المعنية بأحجامها في مجلس النواب، وكذلك هيئات المجتمع المدني، يتفق على ان الاقتراع القاري في الانتخابات النيابية المقبلة سيحدث صدمة لمَن سيربح، كما لمَن سيخسر. كل منهم يدلّ باصبعه على ان الآخر هو الخاسر. يستعجلون تقديراتهم وتوقعاتهم، قبل التأكد من ان الانتشار سينتخب للمقاعد الـ128 على نحو ما يأملون فيه - وبينهم مَن يزعم - وقبل ان يصدر المجلس الدستوري قراره في هذا الجانب في مراجعة الطعن في قانون الانتخاب بين يديه. الى حين الوصول الى هذا القرار، لا تعدو الخيارات المتداولة بين الحلفاء، كما بينهم والخصوم، سوى تكهنات متساوية الحظوظ: اقتراع الانتشار لـ128 نائباً، او اقتراعهم للدائرة الـ16 المحدثة بستة نواب، او تمديد ولاية البرلمان.
كل ذلك، وحده، لا يجعل انتخابات 2022 مهمة بالقدر المحسوب، الا لأنها ستصادف خصماً آخر على الطريق، هو انتخابات رئاسة الجمهورية.
مع انها ليست المرة الاولى يتقاطع اجراء الانتخابات النيابية مع انتخابات رئاسة الجمهورية، لكن التجربة الجديدة تبدو مختلفة عن سابقاتها. عام 1943 فَصَلَ ما بين انتخابات المجلس والرئاسة 16 يوماً، وعام 1964 فَصَلت ما بينهما ثلاثة اشهر. عام 1957 فَصَلَ ما بينهما اكثر من سنة بقليل. عام 2022 لا يتجاوز الفصل ما بين الاستحقاقين سبعة اشهر حداً اقصى، وخمسة اشهر حداً أدنى، تبعاً لأحد الموعدين المفترضين لاجراء الانتخابات النيابية في آذار او في ايار. يحمل ذلك الكتل الرئيسية على ربط اولهما بثانيهما كما لو ان الترابط حتمي ومثمر، وانتصار احدهم في الاول سيقود الى انتصاره في الثاني.
وهو مغزى القراءة المتأنّية لزعماء الكتل الرئيسية أرقام ناخبي الانتشار التي تبقى غامضة، اياً تكن ادعاءات تطميناتهم وايحاءاتها، ومن شأنها احداث اكثر من مفاجأة. من غير ان يخفوا توجّسهم، يأخذون في الاعتبار ان التصويت القاري المقبل سيكون مشابها بكليته لما حصل في انتخابات 2018. حينذاك نالت الاحزاب والشخصيات المكمّلة لها الدائرة في فلكها الحصة الكبرى التي بلغت 95 في المئة، فيما لم يحز مرشحو المجتمع المدني سوى على 2370 صوتاً منتشراً، بنسبة بالكاد تمثّل 5 في المئة من مجموع المقترعين الـ46 الفاً و799، فغدا تصويت الانتشار اداة معزّزة لاصوات الاقتراع الوطني. عامل المفاجأة الذي يتحسّبه كل من الكتل الرئيسية، ناجم هذه المرة عن احتمال تأثر الاقتراع القاري بسياسات الدول التي يقيم المقترعون فيها، ما يفضي حكماً الى تصويت سلبي.
في صلب ترابط انتخابات البرلمان بالرئاسة، في المدة الفاصلة ما بينهما، في معزل عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية او عدمه، اعتقاد الكتل الرئيسية ان الاحجام التي ستخرج بها من الانتخابات النيابية ستجعلها إما ناخباً قوياً او مرشحاً قوياً، وتالياً تعذّر امرار الاستحقاق الرئاسي من دونها. رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع يتوقّع منها كتلة اكبر مما لديه الآن، وهو ما يعلنه ونوابه على الملأ. كذلك يفعل النائب جبران باسيل الذي يفترض - وإن بيأس تحت وطأة العقوبات الاميركية - ان عليه تلقف الفرصة الاستثنائية التي اتاحها له وجود رئيس الجمهورية ميشال عون في المنصب كي يخلفه. اما ثالثهما النائب السابق سليمان فرنجيه، فيبدو اكثر تواضعاً. يعرف ان كتلته الصغيرة يصعب ان تكبر. يعرف اكثر بحكم المراس والخبرة والتاريخ المستوحى من جدّه الرئيس الراحل سليمان فرنجيه، ان الكتلة النيابية لا تصنع منه رئيساً، وليست هي التي صنعت زعامة الجدّ ولا رئاسته، بل التحالفات.
كل من الكتل يقرأ أرقام ناخبي الانتشار على انها له


سرّ هذا التواضع سبق ان عبّر عنه فرنجيه بوضوح، عندما رشحه الرئيس سعد الحريري عام 2015 لرئاسة الجمهورية. حينذاك، دفاعاً عن هذا الترشيح قبل ان يخذله حزب الله، قال انه يملك في البرلمان اكثر من 70 في المئة من الاصوات ضامنة فوزه، قاصداً بذلك حلفاءه الثنائي الشيعي والحريري والنائب السابق وليد جنبلاط، مستثنياً التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية. في ما بعد، في جلسة انتخاب عون في 31 تشرين الاول 2016، صبّت الـ70 في المئة من الاصوات للرئيس الحالي. ليست الـ70 في المئة من الاصوات هذه التي تقفز حتماً عن نصاب الثلثين للانتخاب، الا دليل التسوية التي ترعى دائماً انتخاب الرئيس، على غرار انتخابات 2016، ومن قبلها انتخابات 2008.
في انتخابات 2008، ثم من بعدها 2016، لولا التوافق الشيعي - السنّي لما انتخب الرئيس الماروني. هي ايضاً القاعدة المطبّقة على شغور الرئاسة ايضاً. رغم فارق المدد ما بين شغوري 2008 و2014 - 2016، مع الاول ستة اشهر ومع الثاني سنتين وخمسة اشهر، تعذّر التوافق السنّي - الشيعي مثلما تعذّر انتخاب رئيس للدولة. في المرة الاولى كان الثمن دموياً في شوارع بيروت، وفي المرة الثانية التسوية الرئاسية الجانبية المبرمة والمكلفة. ظل الحريري يرفض انتخاب عون الى ان سلّم به. اذذاك حصل الانتخاب. سبقت مصالحة معراب بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، في كانون الثاني 2016، انتخابات الرئاسة بـ10 اشهر، بيد انها لم تضف الى ترشيح رئيس التيار وقتذاك سوى تأييد جعجع له فحسب. عندما التحق الحريري بخيار حزب الله، اضحى عون رئيساً للجمهورية.
ليست كتلته المسيحية الكبيرة حملته الى الرئاسة، او فرضت انتخابه، بل تحالفه مع حزب الله الذي كان يحتاج - وهو يشارك في لعبة تمديد عمر الشغور ما بين عامي 2014 و2016 - الى الرئيس الذي يطمئنه، على نحو ما وجد فيه الحريري انه الوحيد الذي يبقيه في السرايا طوال العهد الجديد. هي اذن لعبة التحالف، لا العدّ على الاصابع.
ما يجري الآن، ليس سوى افراط الكتل في التعويل على احجامها المقبلة. كل منها يريد ان يكون اكثر من ناخب كبير. ربّما يصح ان الحجم الوحيد القادر على تحريك خيوط الدمى الاخرى، هو الثنائي الشيعي بالدورين البالغي الاهمية اللذين تمنحه اياهما انتخابات رئاسة الجمهورية: ان تضع في يد رئيس المجلس نبيه برّي صلاحية تحديد الموعد وتوجيه الدعوات مرة بعد اخرى الى جلسة الانتخاب من اجل ابقاء الاستحقاق تحت سلطة المادة 73 فلا يقفز الى المادة 74، وان تضع بين يدي حزب الله ادارة موازين القوى التي يشكل عامودها الفقري ومن حوله يترنح حلفاؤه.
بذلك، خلافاً لما يذهب اليه باسيل وجعجع في الاتكال على انتفاخ كتلهما، يذهب حزب الله الى ما اهم من التفاصيل تلك: ابقاء الاكثرية المقرّرة في عهدته.