للسنة التاسعة والعشرين على التوالي، صوّتت الجمعية العمومية للأمم المتحدة على قرار (غير ملزم) لرفع الحصار الاقتصادي المجرم المفروض على كوبا من قبل الولايات المتحدة الأميركية. صوّتت 184 دولة لرفع الحصار فيما صوّتت الولايات المتحدة و«إسرائيل» ضد الرفع، وامتنعت حليفات واشنطن، كولومبيا والبرازيل وأوكرانيا، عن التصويت. تبدو نتيجة 184 مقابل 2 خيالية، لكنها تعكس بدقّة كم هو جائر وعدم أخلاقي هذا الحصار، ومدى اكتراث الولايات المتحدة ووكيلة حروبها في بلادنا للديمقراطية. ورغم أن أمرها مفضوح، لا تكلّ واشنطن من نشر الديمقراطية وكانت لها محاولة جديدة أول من أمس في الجزيرة الثورية العصية على التركيع.المشهد كان مختلفاً جداً بين ما حصل في مدن كوبا وقراها وسهولها وتلالها وما شهدته ساحات مدن الانتشار وعاصمتها ميامي. ففي ميامي، عشيّة اليوم الموعود، رفرفت أعلام حزب فوكس الإسباني حيث قطع نائبان من الحزب (واحد في البرلمان الإسباني وآخر في البرلمان الأوروبي) المحيط الأطلسي ليكونا قرب الحدث، وألقيا خطابات تبشِّر بانتفاضة الشعب الكوبي ضد «الديكتاتورية الشيوعية». وحزب فوكس، الذي أسّس عام 2013، هو أحد الأحزاب اليمينية المتطرّفة التي انتشرت أخيراً في أوروبا، والتي تعادي المهاجرين وتحنّ جهاراً إلى زمن الاستعمار الجميل. عن فئة الكوبيين الأميركيين، تحدث كثيرون أبرزهم نائب حاكم فلوريدا والسيناتور الدائم الحضور في المحاولات الانقلابية في أميركا اللاتينية ماركو روبيو، أما في واشنطن فأطلّ كبار القوم في وزارة الخارجية وكانت رسالتهم موحدة: لا تقمعوا أحرار كوبا حين يخرجون إلى الشارع وإلاّ. للتذكير، هذه واشنطن أحد الصوتَين السرمديَين المعارضَين لرفع الحصار الاقتصادي القامع لشعب بأكمله منذ عقود والتي بالمناسبة تفرضه واشنطن ما غيرها.
طبعاً هناك فئة من الناس لا تؤمن بأن الولايات المتحدة دولة إمبريالية تفرض حصاراً وعقوبات وتشنّ حروباً وتقتل وتجوّع الملايين في حروب هجينة ومباشرة وبالوكالة للمحافظة على الهيمنة التي اعتادتها على الشعوب، وهؤلاء يردّدون ببّغائية غبية أن الاشتراكية بين الكوبيين هي التي جلبت الويلات على اقتصادهم. المضحك أن بعضهم يقولون ذلك في لبنان المعروف باقتصاده الاشتراكي منذ الأزل. لا عتب على شعب لم تتحدّث معه حكوماته المتعاقبة بما فيها «إنقاذية» الميقاتي الحالية عن الاقتصاد إلا بشعارات دعائية عن إعجازات هندسية مالية ومؤتمرات تسوّلية وخيرات ليرة وأصدقاء لبنان وغاز بحاره. قد يتساءل البعض، لماذا لا تنتفض كوبا الفقيرة على «طغاتها»، ويفترض أن قمعاً عسكرياً مثل الممارس في القمعيات العربية هو ما يمنع ذلك، ولا عتب على من لا يعرف ماذا يعني أن تعيش في ظل حكومة ثورية بأن يفكر بذلك. بين الحين والآخر أستمع إلى الخطابات السياسية الكوبية وهو أمر ليس بالسهل لأنه إذا قرّرت في أي لحظة أن تقارن ما تسمعه منهم بما تسمعه على شاشاتنا «الحرة» تجهش بالبكاء. وأنا لا أتكلّم عن خطابات تشي غيفارا وفيديل كاسترو، بل، مثلاً، عن مؤتمر صحافي للرئيس الحالي ميغيل دياز كانيل ووزراء الحكومة وهم يشرحون للشعب تفاصيل ماذا يحدث في إدارة البلاد خلال أزمة كورونا وما لهم وما عليهم، ليتشارك الشعب سواسية في الخروج من الأزمة، وكل ذلك باحترام لعقل المشاهد وبتعمّق في المسببات والخيارات المتاحة ولمَ اتخذ القرار بإعطاء الأولوية لخطوة قبل الأخرى. أولاً، أن تكون حكومة ثورية هي أن تغلّب مصلحة الأكثرية على جشع البعض. وهذا يظهر في تصرّف كل وزارة وكلام كل وزير في كوبا، ولكن هذا ليس من فراغ، لأنك لتصل إلى موقع المسؤولية عليك أن تكون مسؤولاً فعلاً لا جشعاً كاذباً منافقاً متسلقاً مهووساً بالجاه وحب الظهور (أعتقد أنني أصبت في وصف معظم التشكيلة الحكومية اللبنانية الحالية). أيضاً عليك ألا تكون جاهلاً غبياً. ماركو روبيو هو كل ما سبق ذكره بعد كلمة لا.
ماركو روبيو مولود في ميامي لعائلة كوبية كان يدّعي أنها هربت من الثورة الاشتراكية، قبل أن ينفضح ويتبيّن أن والداه عبرا مسافة التسعين ميلاً التي تفصل كوبا عن فلوريدا خلال ديكتاتورية باتيستا، قبل انتصار رفاق فيديل في الثورة. كان يحلو للرفيق فيديل بأن ينعت الرجعيين المعادين للثورة، خصوصاً الذين استقووا بالإمبريالية في واشنطن، بالـ«غوسانوس» (gusanos)، أو الدود بالعربية، تماماً مثل المثل القائل «دود الخلّ منّه وفيه». بالعودة إلى أحداث يوم الاثنين في الجزيرة، الحراك المطيح للنظام ولد ميتاً واستدرك الإعلام الأميركي والغوسانوس على صفحات التواصل ذلك باكراً، وبات يقول إن الجماهير قد لا تنزل إلى الشارع بسبب قمع الديكتاتورية، لكن خرجت كمشة فيديوهات تظهر أن هناك قلة لبّت الدعوة. استوقفني مقطع فيديو لعائلة «جريئة» من خمسة أفراد خرجت إلى عتبة بيتها بالقمصان البيضاء وهي رمز الحراك، وهتفت ضد الديكتاتورية بوجه عشرات من القمصان الحمر الذين طوّقوا البيت وهتفوا «هذا الشارع لفيديل». خلال الفيديو وبعد أن شتم أفراد العائلة الثائرة كل جيرانهم وأهانوهم واستفزّوهم، قال الشاب الذي يصوّر الفيديو للحشد مصطلحاً كوبياً فريداً معناه «اتهموني بأنّي دودة»، ومعظمهم كان ينظر إلى الشاب والعائلة الثائرة بشفقة عليهم وحزن، نظرة تقول: نحن نقبل بكم بيننا ونتشارك معكم القليل الذي نملكه بالتساوي ولا نريد مجتمعاً مدوّداً، وها أنتم تلبّون دعوة الأحمق الغبي الدودة ماركو روبيو ومن يجمع العالم كله (إلا «إسرائيل») كل سنة على أنه من يجوّعنا لنركع وكل ذلك للقيام بهمروجة الهتاف للحرية؟ إلى أن قالها أحدهم حانقاً: غوسانو!
أن تسير خلف أحد الاثنين في معادلة الـ«184-2» التي ابتدأنا بها الحديث في بلد حكومته ثورية شعبية بكل معنى الكلمة يجعلك حقيراً ومثيراً للشفقة، وأنت أصلاً قادر على الاستفزاز والسباب واستعداء كل جيرانك لأنك غير مقموع بل غبي، وهم أوعى منك وغير مأخوذين بشعارات دعائية هوليوودية. وهم أثبتوا محاولة بعد محاولة وسنة بعد سنة وجيلاً بعد جيل أن ثورتهم لن تهزم، لا من الإمبريالية وإجرامها، ولا من الديدان المغرّر بها. بالعكس الثورة تنتشر في جنوب القارة الأميركية وستصل يوماً ما إلى شمالها، وهذا ما يغيظ نخب الإمبراطورية.
أما في لبنان فحكومتنا بعيدة كل البعد عن أن تكون ثورية. ففي تشارك الأعباء وتقاسم الخسائر وما لنا وما علينا، لم تكن هناك لا مصارحة ولا «سوف أشرح لكم» بل أثبتت الطغمة الرأسمالية الحاكمة أنه في معادلة التشارك، كله لهم وكله علينا. منظومة رأس المال مدوّدة ومفلسة ومنتهية، مهما حاولت إنكار ذلك. لكن المضحك هنا هو في من يدّعي أنه بديل ثوري، وبالإضافة إلى امتلاكه كامل صفات ماركو روبيو، يستكبر على شعبه ويدّعي أنه أدرى منه بمصالحه رغم أنه غالباً لا يعرف من لغاتٍ ثلاثة يدّعي إتقانها كلمات تكفي لصياغة جملة مفيدة واحدة. عملياً لا أظن أن أي جملة تبدأ بكلمة «برو»، التي أدرجتها بين الشباب فقّاسة فضلو خوري للبديل الثوري، تُسمع حتّى نهايتها. لكن لنجرّب.
برو، لا أنت ثوري ولا أنا أخوك إذا ما كنت عند كل استحقاق جدّيّ أجدُك أقرب إلى صاحبَي الصوتَين الـ«2» الثائرَين ضد كوبا في الأمم المتحدة ممّا أنت عليه من ثوار كوبا ومن شعبك ومن جيرانك ومن الدكنجي تحت بيتك… أنت «غوسانو»، يا دود.