انتشر، أخيراً، فيديو لحلقة عاشورائية في ولاية ميشيغان الأميركية التي تؤوي عدداً كبيراً من منتشري قضاء بنت جبيل، انضمت إلى الحلقة خلاله بنتٌ ليست من «بنات جبيل»، وبدأت بالرقص مع اللاطمين بعدما جذبتها الطاقة التي أظهرها الشباب المأخوذ بحمى الطقس الديني الأهم بالنسبة له.لا شك في أن الطقوس والتراتيل الدينية جذّابة حتى لو كانت «ندبية»، وإلا لم تكن لتثبت فعاليتها على مدى القرون، ولم تكن لتعبر القارات واللغات وتلقى تقبّلاً حتى في أعماق الأمازون النائية التي تبعد عن الناصرة وبيت لحم وقانا الجليل آلاف الكيلومترات. في الفيديو المذكور أعلاه، تتدخل سيدة وتشرح لبنت البلد السائحة بين الوافدين أن الطقس الديني الذي يقومون به ليس رقصة، وأن ممارسي الطقس في حال حداد ويعبّرون عن حزنٍ، فيما ظهرت معالم الصدمة على الشقراء الميشيغانية غير القادرة على فهم ما يحدث.
الطقوس الدينية من أهم ممارسات رعاية الصحة النفسية، وهي بالمناسبة تفوق «اليوغا على الرينغ» فعالية، وأنصح بها لكل من يسعى للأجوبة الوجودية وراحة البال، وإن كان لا يعنيني شخصياً لا الطقوس ولا الدين. إن كانت الفناء والآخرة والحياة الأبدية تقلقكم فآمنوا بالجنة ولا تحاولوا أن تقنعوا أنفسكم أن حياتكم على هذه الأرض أكثر من مجرّد عبث.
لكن، طبعاً، لهذه الطقوس أربابها ومستفيدون منها ومؤسسات مأسست استغلال الطقوس وراحة البال (ووفرة المال بطبيعة الحال) التي تجلبها. وأنجح التجارب في مأسسة الدين هي في الكنيسة الكاثوليكية وفاتيكانها. لن أنكر أنّ بعضنا في «الأخبار» نحسد الفاتيكان، ونسعى من الطابق الثامن في مبنى الكونكورد إلى نشر فكر ثوريّ يطغى على الأديان السماوية جمعاء، ويغلّب مصالح أغلبية سكان العالم في حياتهم الأرضية، لكن تلوّثنا سوسةٌ طالما فتكت باليسار وهي الفوضوية، عدا عن الشح في الموارد مقارنة بمن يطرّز ثيابه بخيوطٍ من ذهب. نحن حالمون مجانين وسنغيّر العالم للأفضل (ولا أتحدّث هنا عن عالمٍ أفضل فحسب، بل الأفضل على الإطلاق)، لكن الظروف الآنية ومحدودياتنا تجبرنا بالبراغماتية وكليشيه الخطوة خطوة. ما حدث في الأمس هو أن جمهور وقرّاء الجريدة انتفضوا على مقالة تميّع اتهامات مغتصب الأطفال منصور لبكي. منصور لبكي وحشٌ مفترسٌ، وما بان في المحاكم الكنسية و«الأم - حنونية» ما هو إلا القليل مما اقترفه. لن أدخل في تحليل متلازمة ستوكهولم ومسارعة البعض للدفاع عمن جلب لهم راحة البال تراتيل وإيماناً، لكن لا بد من تقدير وعي محبّي «الأخبار» الذين يطالبون جريدتهم بأن ترقى لما يطمحون ونطمح له.
لا مكان لمغتصبي الأطفال في مجتمعنا ولا لـ«جرائم الشرف»، ولا للأحكام الجائرة التي تحرم أمهات من أولادهن، ولا لأي رجعيّة سلفيّة دينيّة، صليبية كانت أم محمّدية. هذا عهدٌ.
أما للمزايدين الذين ينتظرون هفواتنا بشغف، راعي منصور لبكي معروف العنوان، وهو بالمناسبة راعي عصبة المصرف أيضاً، وراعي كارتيلات احتكار، وراعي التطبيع مع الانبطاح والانهزامية، فليصبّوا غضبهم في ذاك المكان إن كانوا فعلاً مع الحق، ولهم منّا كل الدعم. لكن لا تراهم إلا يمارسون طقسهم اليومي في تكرارٍ مملٍّ لكيف أنه لم يعد للجريدة قرّاء أو تأثير، ويحنّون إلى الأيّام الجميلة التي كان فيها للمفكّر العربي عمود على صفحاتها، قبل أن يحاول استنساخ «الأخبار» في تجربة فاشلة بعد الأخرى. سبب الفشل هو أنه لا يمكن التحايل على حقيقتك إلى الأبد. لا يمكن أن تدّعي التقدّمية من بلاط الأمير، تماماً كما أنه لا يمكنك أن تدّعي الثورة والحرّية وأنت تقتات من فتات المستعمر. قد تتذاكى وتظن من عليائك الثقافي المتخيَّل أنك تخدع الجمهور، لكن الجمهور أوعى منك وكاشف لنفاقك.
هناك جمالية ساحرة في بعض الطقوس الدينية. فيروز حين تحيي الجمعة العظيمة إلهةٌ. وأحياناً أسردها على فيديوهات لحضرات ذكر الله الصوفية لساعات، ومفعولها على النفسية توازي تجليات الراحل العظيم صباح فخري الموسيقية. لا أكنّ أي عداء للأديان إلا تلك التي تستحدثها الرأسمالية في مرحلتها المترهلة. ولا أكنّ أي عداء للكنيسة إذ يمكنها أن تلعب دوراً مهماً في إحقاق العدل بين الناس، وهناك تجربة لاهوت التحرير في دول الجنوب قبل نصف قرن، لكن شتّان بين رجال الله الحق ومن يحمي منظومة اغتصاب. طقسنا الديني اليومي في الجريدة سيبقى مقارعة ناهبي العالم ونصرة المستضعفين ونشر القيم التقدمية والتحررية والثورية، وطبعاً إزعاج المزايدين المنافقين.