«حرام نحنا. كَرسحونا. حتّى ما بدّن يعطونا عِكَّيزات لنعَكِّز». يلفظ أبو حسن كلماته بحسرةٍ، وهو يُركّز نظره على بناية «الموسوي» في منطقة الطيّونة والمبنى المُلاصق لها، «المُخَردَق» بالكامل، جرّاء جريمة يوم الخميس. يسكن في أحد شوارع الطيّونة الداخلية، «كنّا عم نحضر أفلام متحركة وقت ولعت. جوّا ما صار شي»، إلا أنّ ذلك لم يُبرّد أعصاب الأب «حتّى اطمأنيت أنّ أولادي بخير. سنموت بذبحة قلبية». أبو حسن من المقاتلين القدامى في الحرب الأهلية، «لم نكن في حينه مُدركين ما نفعل، والآن يُعيدون تكرار السيناريو نفسه. الاستفزاز المُتبادل الذي حصل أمس ما الغاية منه؟ وشدّ العصب المسيحي - المسلم إلى ماذا يقود؟ لماذا يحرقون أعصابنا؟ حين يعود هذا الجيل إلى وعيه يكون البلد قد طار، ونكون أنت وأنا وهؤلاء المساكين الضحايا الفعليين، لا الموتى الذين ارتاحوا».مدخل فرن الشبّاك من جهة تقاطع سامي الصلح، مروراً بدوّار الطيونة، وصولاً إلى بداية طريق صيدا القديمة حيث دارت المواجهات الأقسى أول من أمس، تحوّل ثكنة عسكرية. عناصر الجيش أقاموا حواجز على مدخل كلّ طريق، مع تفتيشٍ دقيق للدرّاجات النارية. انتشر عناصر استخبارات الأجهزة الأمنية ومخابرات الجيش لمعاينة المباني المتضررة، «إجو كلّهم لهون، بدال ما نوزّع حالنا عا المناطق لنخلص أسرع»، يقول عنصر لزميله متأففاً. جنودٌ من الجيش، يحمل أحدهم كاميرا ويصور واجهة متجرٍ سويت بالأرض على طريق صيدا القديمة. هل يُريدون التعويض؟ «شو عم تقولي نكتة؟ مين بعوّض على مين بالبلد؟»، تُجيب صاحبة المتجر. تنظر حولها بعيونٍ باردة وهي تجمع الزجاج في كراتين ورق، تعلّق ساخرةً: «لو كانوا ألماساً مش أحسن؟». إلى جانبها، صاحب متجر لبيع الدخان يُكنّس الزجاج حامداً ربّه على تركيب بوابة حديد قبل أيام قليلة، «وإلا كانت ولعت البضاعة». تمنٍّ لم يتوافر لمالك معرض السيارات في الجهة المقابلة، بعد أن أُصيب عددٌ منها، ولا مقهى «رويال» أكثر المتضررين أول من أمس، لأن عناصر من الجيش - حسب روايات السكّان - أطلقوا النار منه صوب الجهة المقابلة، «فبدأ تبادل الرصاص. وبعد مغادرة الجيش تعرّض المقهى للسرقة ليلاً».
لم تكن تلك الشوارع تمسح عنها آثار معركة امتدت قرابة خمس ساعات، بل كانت أشبه بمن خاضَ حرباً طويلة تمكّنت منه. «نحنا ممنوع نعيش بأمان»، يُعلّق أحدهم مُشيراً إلى شخص يعمل ناطور بناية «لم يكفه الهلع والخوف اللذين عاشهما، وفوق ذلك دفع 600 ألف ليرة لينقل أطفاله من بيروت إلى بيصور. أي خسر معاشه أيضاً». كثيرون من سكّان المنطقة، الطيونة وعين الرمانة وبدارو، نزحوا من منازلهم إلى مناطق أخرى، لا سيّما من يملك منهم خيارات سكنية بديلة. لم يعد أغلبهم أمس، «بانتظار أن يخفّ الغليان».
حين يعود هذا الجيل إلى وعيه يكون البلد قد طار


أمام كلّ عربة قهوة أو «كافيتيريا» صغيرة، تجَمَّع أفرادٌ لـ«تقييم» أحداث الخميس. تتنوّع الآراء بين من هو غير مُقتنع بمسؤولية حزب القوات «نتيجة التنسيق الدائم بين حركة أمل وبينه»، وبين من يُريد رمي الكرة في ملعب رئاسة الجمهورية، وبين من يعتقد أنّه كان الأجدى الخروج من الشارع وعدم الردّ على النار «فتكون قضيتنا أقوى». على دوّار الطيونة شبابٌ يقولون إنّهم ينتمون إلى حركة أمل، يسردون ما جرى: «تقدّمنا باتجاه جادة سامي الصلح لملاقاة الاعتصام أمام قصر العدل. بدأ الاستفزاز ورشق الحجارة علينا من خلف مدرسة الفرير، فردّينا بالحجارة، ليبدأ بعدها القنص علينا. ما جرى بعدها من دفاع عن النفس تمّ بطريقة غير مُنظّمة».
قرابة الثانية ظهراً، ومع انطلاق تشييع الضحايا، «لَعلع» صوت الرصاص في سماء المنطقة. بين من اعتقد أنّ المواجهات عادت، ومن هرب للاحتماء في مدخل إحدى البنايات، ومن أكمل سَيره «طبيعياً»، كان سكّان في عين الرمانة وفرن الشباك يُعلّقون: «نحنا تعودنا عا هالأصوات».
قلب عين الرمانة بقي بمنأى عن الأحداث، تماماً كأحياء الطيونة الفرعية، لتنحصر المواجهات عند خطوط التماس. عناصر القوات اللبنانية «يحرسون» مركزهم الحزبي، وقد انتشروا أمس أصلاً أمام مراكزهم في الأشرفية. «ما في شي اليوم، رايقة. مبارح كنا قاعدين برّا، بس بلّش الرصاص سكّرنا وطلعنا عا البيت»، يقول صاحب الدكّان الصغير، مُعطياً توجيهاته لكيفية الاحتماء من الرصاص «الطائش».
الجيش نفّذ مداهمات أمس في عين الرمانة، «ونشروا صوراً لشباب لا يعيشون أصلاً في البلد»، بحسب عماد. يقول إنّه أمضى يوم الخميس يتنقّل بين الشوارع، «لم أر مُسلحين ظاهرين في عين الرمانة كما أُشيع. ومستحيل أن يكون القنّاصون من القوات اللبنانية، لأنّ كل البنايات المواجهة لطريق صيدا القديمة يسكنها أشخاص من الطائفة الشيعية. لا أعلم ربّما يكون طرف ثالث». الاتهام جاهزٌ في عين الرمانة لـلـ«هنّي». يقول مناصر للقوات إنّ المتظاهرين «بدأوا بالاستفزاز، رشقوا الحجارة، أطلقوا أول طلق ناري وأصابوا شاباً من عائلة طوق ما اضطر والده وقريبه إلى الردّ. كنا بحالة دفاع وليس هجوم». يُبرّر بأنّ شباب عين الرمانة «اتخذوا قراراً بعدم السماح لأحد بالدخول والاعتداء على الممتلكات، فوقفوا على المداخل لإثبات الوجود وليس لإراقة الدماء. كلّ ما حاول أحدهم التقدّم صوبنا، أطلقنا النار أمامه. ما بقا في حدا يستوطي حيطنا».
الهدوء الفعلي كان في شارع بدارو شبه الفارغ نتيجة التزام أغلب المقاهي والمطاعم والمحلات بالإقفال العام. من فتح باب رزقه، غَلبت على أحاديثه جريمة الخميس. «أنا بحبّ السيّد حسن، بس ما هنّي كمان نزلوا. كل واحد عندو سلاح نزل، وما حدا بلبنان ما عندو قطعة». رجل خمسيني ذكّرته المواجهات «بالحرب ولمّا تهجّرنا، وقلت الله يستر. بس انشالله خلصت، والاثنين بكون مشي الحال».