ما هو متفق عليه أن الاستشارات النيابية الملزمة، المقرّرة اليوم، يقتضي أن تفضي إلى تسمية الرئيس نجيب ميقاتي رئيساً مكلفاً تأليف الحكومة. الغالبية النيابية المضمونة لتسميته، هي نفسها التي قادت إلى تسمية الرئيس سعد الحريري في تشرين الأول 2020. كذلك الكتلتان المسيحيتان الكبريان، التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، اللتان لم تسمّيا الحريري حينذاك، ستمتنعان عن تسمية خلفه، ما يُبقي أولى المشكلات التي صدفها الرئيس المكلف السلف في واجهة ما قد يجبهه الرئيس المكلف الخلف. في استشارات تسمية الرئيس حسان دياب عام 2019، سمّت كتلة حزب القوات اللبنانية السفير نواف سلام، فيما تقول كتلة التيار الوطني الحر إنها تفضله الآن على ميقاتي.بذلك، يبدو واضحاً أن الغالبية النيابية صاحبة قرار التسمية، قبل أن ينبثق التكليف من رئيس الجمهورية ميشال عون، تتمحور من حول ثلاث كتل رئيسية هي كتل رئيس البرلمان نبيه برّي وحزب الله ووليد جنبلاط وحلفاؤهم في الكتل الصغيرة المتفرّقة أو النواب المستقلين. علامة الاستفهام حتى البارحة كانت من حول كتلة الحريري التي سمّته يوم تكليفه، وكانت جزءاً لا يتجزأ من الغالبية تلك.
مساء يوم اعتذاره عن عدم تأليف الحكومة في 15 تموز، قال الحريري في حديثه التلفزيوني إن كتلته لن تشارك في الاستشارات النيابية الملزمة المقبلة، وهو لن يسمّي مرشحاً لخلافته. عنى ذلك حتى مساء أمس، قبل صدور بيان الرؤساء السابقين للحكومة مؤيداً ميقاتي، أنه وكتلته لن يكونا في صلب الغالبية النيابية. بدا أخيراً من الطبيعي تخلي الحريري عن موقفه في 15 تموز، خصوصاً في ظلّ معلومات أكدت تفاهمه مع برّي على خلافة ميقاتي له، راداً بذلك الجميل للرئيس السابق، اللاحق، الذي وقف إلى جانبه في الأشهر الثمانية المنقضية من تكليفه، متمسّكاً بخياراته ومواصفاته لتأليف الحكومة وللصلاحيات الدستورية المنوطة بالرئيس المكلف في مرحلة تأليفه الحكومة.
لم يعد الحديث عن التكليف ذا شأن ومهماً، بعدما بات محسوماً. نائب طرابلس رئيساً مكلفاً اليوم. عزّز هذا الاعتقاد عودة ميقاتي إلى بيروت في الساعات الثماني والأربعين المنصرمة بعد إجازة بحرية. فور رجوعه التقى السبت رئيس البرلمان ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، ومن ثم لقاء المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين خليل أمس. في ذلك مؤشرات إلى أن الرجل وافق على ترؤسه الحكومة، وانتقل من قبل أن يُكلّف إلى المرحلة التالية، وهي تأليف الحكومة عبر مشاورات اليومين الأخيرين.

لكن ماذا بعد؟
ثمّة سيناريوان إيجابي وسلبي، مفترضان ومتقاطعان، قيد التداول، ينفصل أحدهما عن الآخر في المحطة الأخيرة. بعد الاستشارات النيابية الملزمة والتكليف الاثنين، مشاورات الرئيس المكلف مع الكتل النيابية الثلثاء أو الأربعاء، فمشاورات بعيدة من الأضواء قبل الجمعة، انتهاء بتقدّمه بتشكيلة حكومية إلى رئيس الجمهورية قبل نهاية الأسبوع أو مطلع الأسبوع المقبل حداً أقصى. ينفصل هذا السيناريو الإيجابي عن ذاك السلبي بأن تحظى المسودة بموافقة الرئيس في ضوء ما يتردّد من أن ميقاتي لن يستنفد الوقت كالحريري لتأليف حكومته، فتبصر النور في أسبوعين في أفضل الأحوال.
أما السيناريو السلبي، فيروي - وإن من باب الافتراض نفسه لذاك الإيجابي - أن لا يوافق الرئيس على ما يُطرح أمامه، فيعتذر الرئيس المكلف للفور. وتعود المشكلة إلى أولها وأكثر تعقيداً. بعض ما يُنسب إلى محيطين بميقاتي أنه، استباقاً لما سيأتي بعد، أقرب إلى الاعتذار أكثر منه إلى التأليف.
ميقاتي باشر التأليف قبل التكليف بالاجتماع ببرّي وجنبلاط


بيد أن العقدة الفعلية التي يفترض أن تكون في صلب تفاهم رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، أو تؤول إلى افتراقهما، فهي نفسها ـ غير المعلنة ـ التي دارت بين عون والحريري، وتلطت بأسباب شتى للحؤول دون تأليف الحكومة طوال ثمانية أشهر قبل الوصول إلى الاعتذار. ليست تماماً، وفقط، عدد وزراء الحكومة، ولا توزيع الحقائب، ولا الثلث +1، ولا تقاسم الوزراء المسيحيين، ولا حصة رئيس الجمهورية، ولا حقيبتا الداخلية والعدل، ولا تسمية الأفرقاء الوزراء أو عدم تسميتهم، ولا مواصفات الوزير الاختصاصي. كمنت المشكلة في ما طلبه عون من الحريري في أولى محادثاتهما حول التأليف، حيال التزام حكومته التدقيق الجنائي، فردّ الحريري - تبعاً لما رواه الرئيس - بطلب التريّث في معرض رفض الخوض في هذا المطلب وتطبيقه، واضعاً أمامه ذرائع شتى، من بينها أنه لا يريد إغضاب حلفائه، في إشارة إلى رفض هؤلاء التدقيق الجنائي.
في اليومين المنصرمين، تحدّثت معلومات عن تواصل بين عون وميقاتي، على الأرجح غير مباشر، مفاده بأن رئيس الجمهورية أبلغ إلى الرئيس المكلف المحتمل الآتي: لديه شرط واحد فقط للتعاون، وهو مستعد لأن يلبي كل ما يطلبه منه، وإعطائه ما لم يُعطه للحريري، لقاء التزام واضح غير رمادي بإجراء حكومته التدقيق الجنائي فور تسلمها صلاحياتها.
في ما أراده رئيس الجمهورية، أن التدقيق الجنائي ليس مطلبه هو فحسب، بل يقول به بإصرار المجتمع الدولي، الفرنسيون والأميركيون والأوروبيون والعرب، ناهيك بأن أدرجه صندوق النقد الدولي في أولويات شروطه لمباشرة مفاوضاته مع الدولة اللبنانية، كي يساعدها على انتشال اقتصادها ونقدها الوطني من القعر.
ما أورده شرط الرئيس: لسنا في صدد الانتقام من أحد، بل أن نعرف إلى أين ذهبت أموالنا؟ التدقيق الجنائي جزء من الإصلاحات البنيوية التي ستجريها الحكومة المقبلة لقاء الحصول على مساعدات عربية وغربية.