بمعزل عن أي اصطفاف سياسي أو كيدية شخصية، تبدو التهنئة واجبة لسمير جعجع، على مجمل المسار الذي اختطه لنفسه في الأسابيع القليلة الماضية، والذي توّجه أمس بنيله 48 صوتاً نيابياً في جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية. فالواضح أن جعجع نجح في تحقيق أهداف عدة، وفي شكل متزامن. تكفي لتأكيد ذلك رؤيته متسمراً أمام شاشة النقل التلفزيوني المباشر، وهو ينصت إلى تكرار اسمه كمشروع رئيس.
تأتي الصورة بعد أعوام قليلة جداً على مثول الرجل نفسه في قفص الاتهام، بين المجلس العدلي ومحكمة جنايات بيروت، ليستمع وقوفاً إلى المناداة باسمه، محاكماً، ومن ثم محكوماً خمس مرات، أكثر من نصفها بالإعدام المخفف سجناً مؤبداً. أمس كان كل الحلم متحققاً في عيني جعجع. أن يردّ الصفعة لكثيرين، من شامتين أو حاقدين أو أعداء أو حتى أصدقاء أو حلفاء. حتى ذكر سبعة من أسماء المشتبه في كونهم ضحاياه، لم يغيّر سحنة وجهه المنتصر. كان ينقبض للحظة عند قراءة الورقة الحمراء، كمن يتذكر كابوساً، قبل أن يستأنف جلسة الحلم المحقق والمنجز. لا لزوم لأكثر ولا لأبعد ولا لأعلى. يدرك الرجل ممكنه، ويدرك الدور والوظيفة والحدود، ونجح ضمنها في تحقيق كل أهدافه.
أولاً، وفي الشكل، كان جعجع في حاجة إلى إظهار أن لديه حزباً. هو يعرف، وكل من معه وضده أيضاً، أن المقصود ذلك الحشد العصبوي المتواضع حول شخصه، والذي يحتفل بعد أشهر قليلة بمرور 9 سنوات على رئاسته الجديدة له، من دون أن يشهد لحظة من نوع ديمقراطية ولو خاصة، ولو جزئية، ولو شكلية. كما باقي أحزاب لبنان أصلاً. تسع سنوات يعين سمير جعجع خلالها كل «ديمقراطيي» حزبه الديمقراطي. حتى إنه يعمّدهم «رؤساء أجهزة». ربما كي لا تلتبس الصفة أو الوظيفة أو الهيكلية والتراتبية لدى أي منهم. كان جعجع في حاجة بعد تسعة أعوام إلى قشرة ديمقراطية على الأقل. وجاءته مع ترشيحه الرئاسي. اجتماع لهيئة حزبية. مهل زمنية ضرورية لإقرار الترشيح عبر آليات الحزب. نقاش وبحث، قبل أن يضطر المخضرم جورج عدوان إلى إعلان النتيجة. هدف أول حقّقه جعجع: ها نحن حزب ديمقراطي!
ثانياً، على مستوى مسيحيي الفريق الحريري. كان جعجع بحاجة إلى اللحظة التي يعشقها، لحظة قول وفعل «الأمر لي». أثناء البحث في صيغ قانون جديد للانتخابات النيابية، تمرد على أمره البعض. لا تُنتسى تلك المعصية. بطرس حرب صار يجمع من سمّاهم «مستقلين» ليخالفوا توجه «القائد» وتوجيهاته. المكاري ذهب أبعد، صار يدلي بتصريحات إعلامية ضد من جعله بأصواته نائباً في الكورة. صار يتجرّأ على معراب، كما لم يفعل يوماً مع عنجر. الرئيس الجميّل ظل على كبره في التعاطي يومها. حاولوا تهميشه وضربه وإقصاءه. لكن الرجل احترف العض على الجراح. فسكت وأجبرهم على السكوت... لكن كل ذلك لم يسقط من الذاكرة القريبة. فكان الانتظار للحظة إطلاق صفارة الانضباط. الجميع تراصف، قطار أحادي خلف زعيم الفريق. انتهى المزاح. هدف ثان حققه سمير جعجع.
ثالثاً، على المستوى اللبناني العام، كان جعجع بحاجة إلى فرصة رسمية قانونية دستورية حتى، لتكريس إعادة تأهيله سياسياً بريئاً كل البراءة السياسية. رغم العفو سنة 2005، ورغم الكتلة الوزارية والنيابية، ورغم كل مظاهر النفوذ والقوة، كان جعجع لا يزال بحاجة إلى ورقة «لا حكم عليه»، على أن تكون ورقة من نوع ثابت دامغ، لا كورقة السجل العدلي المزدوج الذي في جيبه، حيث النسخة الخضراء نظيفة، فيما الحمراء حبلى حافلة «وِجْ وْقَفا»، بكل أحكام حقبة غازي كنعان ـــ حليف حليفه ـــ ورالف رياشي، عدوه في المجلس العدلي وقاضي شريكه في المحكمة الدولية. كان جعجع بحاجة إلى لحظة يقول فيها لكل الناس: مثلي مثلكم. ومن لا يعجبه، فليضرب رأسه بأي حائط، أو حتى بحائط المبكى الذي يعرفه جيداً مرشح ربيع الكرامات العربية... هدف إضافي حققه سمير جعجع!
رابعاً، وعلى سيرة البعد العربي، كان جعجع بحاجة إلى سياق جديد مماثل لسياق الطائف. إلى تقاطع داخلي ـــ خارجي يمكّنه من تقديم أوراق اعتماده «لمن يهمه الأمر»: تريدون ضرب ميشال عون؟ أنا جاهز. متطوع دائم. نتقاتل ونقتتل ونقتل ونستمر في كل ذلك، حتى تصير وراثتنا حتمية من قبل أي ضعيف، أو حتى من قبل الأضعف. تريدون من يثبت أنه ممنوع على المسيحي الأقوى أن يصل أو حتى أن يكون موجوداً؟ في الخدمة، نُفّذ الأمر، في شكل متزامن مع شكلية «الأمر لي». المهم أن لكل شيء ثمناً، ولا شيء بأي ثمن، كما كتب يوماً صديقه القديم العتيق، كريم بقرادوني... هدف رابع تحقق، بعيداً عن كل حق أو حقيقة.
التهنئة واجبة للرجل. مبروك سمير جعجع. والتهنئة والتبريك له يفرضان تحديين كبيرين على جهتين اثنتين: أولاً، يقتضيان من منافسي جعجع إعادة النظر في تكتيكاتهم واستراتيجياتهم ومراجعة كل التنظيرات والزحطات والبهلوانيات الكلامية والسياسية. هل لا يزال بعد جلسة أمس ممكناً أن تلتقي الرياض وطهران، برعاية واشنطن، على دعم مسيحي قوي للرئاسة؟ أم انتهى الأمر؟ أو ظهر ما كان فخاً؟ أو انكشف ما أريد «بلفة»؟ أم على العكس، لا يزال الوقت متاحاً والفرصة ممكنة؟
ثم إن تهنئة جعجع هذه تقتضي من الكنيسة مراجعة موقفها بدقة. فهي طالبت طبعاً بالعفو عن جعجع وبخروجه من سجنه وبعودته إلى الحياة السياسية. لكن، هل قصدت من ذلك الذهاب إلى هذا الحد؟ فالكنيسة تعرف جعجع جيداً. لا بل هي أكثر من يعرفه. لا لزوم عندها لإعادة محاكمات ولا لتشكيك سياسي ممجوج في قضاء تعرفه الكنيسة كما تعرف جعجع. يكفيها اعتراف علني بقضية مطرانية زحلة، ورسالة المطران بولس مطر الخطية حول اغتيال رشيد كرامي... فهل تريد الكنيسة الذهاب حتى هذا البعد؟
في الانتظار، وخصوصاً في انتظار المأزق والفراغ وما بعدهما، تظل التهنئة واجبة للرجل، مبروك سمير جعجع!

يمكنكم متابعة جان عزيز عبر تويتر | @JeanAziz1