بعد الهزيمة التي لحقت بالجيوش والأنظمة العربية في 5 حزيران 1967 كانت الخزينة المصرية خاوية وبحاجة إلى الدعم لاستيعاب الصدمة والمباشرة في عملية البناء والرد على العدوان الصهيوني المستمر. عرف بالأمر د. خير الدين حسيب وقد كان حاكماً للبنك المركزي في بغداد فاتصل برئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف والمسؤولين وتدبّر بحنكته مبلغاً وازناً بالعملات الأجنبية وأرسله مباشرة إلى القاهرة التي رأت فيه بادرة خير من العراق وخطوة حيوية لتفادي أزمة معيشية خانقة كانت تتهدّد مصر في ظل الحصار الواسع الذي كانت تتعرض له من كل القوى الاستعمارية وأعوانها في المنطقة.تلك المبادرة التي أكدت على عمق الروابط القومية بين العراق ومصر عكست في الوقت نفسه الروح العربية الصافية التي صاحبت خير الدين حسيب من شبابه إلى مماته، وبيّنت الشخصية العملية التي كان يتمتع بها، فالمهم بالنسبة إليه لم يكن فقط اتخاذ القرار، وإنما أيضاً العمل على تنفيذه في الوقت المناسب.
كان حسيب يتمتع برهافة الحس تجاه القضايا الوطنية والقومية، يندفع بحماسة ذوداً عن العراق وحقوق أهله، ونصرة الشقيق في معاركه، سواء كان في فلسطين أو لبنان أو مصر أو اليمن أو الجزائر، كما كان يشعر في الوقت نفسه بالخيبة والمرارة كلّما صدمه تقصير من الأنظمة أو قصور.
على أن حماسته المفرطة لم تؤثر يوماً في حكمته ورجاحته، مثلما أن خيبته لم تنل يوماً من إرادته العصية على الخضوع، إذ كان يبادر دائماً إلى المقاومة وتحويل شعوره العارم إلى طاقة لمتابعة العمل وابتكار وسائل ودفاعات تقي الأمة فخّ التواكل والاستسلام. ولا غروَ فقد كان نبضه عربياً أصيلاً سواء في التفاعل مع البديهيات أو في مواجهة المتغيّرات. ولئن كانت الوحدة العربية هاجسه وشغله الشاغل فهو لم يترك باباً في هذا السبيل إلا وطرقه حتى إنه وقف نفسه وجهده في عمل دؤوب لا يتوقف لا في السلم ولا في الحرب، لا في زمن العافية ولا في زمن المرض، من أجل هندسة الأفكار وابتكار الوسائل لتحقيق هذا الهدف السامي.
وفي هذا الإطار النضالي كان حسيب عنصراً فعّالاً في الرد العربي على الغزوة الثقافية المتجددة للتحالف الصهيوني الاستعماري الذي يحاول بكل ما لديه من إمكانات تشويه الثقافة العربية وإدامة التخلف على المدى القومي، وتفكيك ما أمكنه من وشائج وروابط بين الأقطار العربية وتحويل كل قطر فيها إلى كيان هزيل يضجّ بالصراعات المذهبية والاثنية والفئوية.
وفي هذا السبيل ساهم حسيب في تأسيس العديد من المؤسسات الثقافية والسياسية والعلمية، كان في مقدمها "المؤتمر القومي العربي" و"المؤتمر القومي/ الإسلامي" و "مركز دراسات الوحدة العربية" الذي ما زال، رغم ظروف الحرب والانهيار والوباء، صامداً في بيروت يؤدي رسالته النبيلة في تنمية الروح البحثية والعلمية لدى الأجيال الطالعة، والدعوة إلى التواصل والتنسيق والاتحاد في دنيا العرب، ومقاومة كل اتجاه لتهميش القضية الفلسطينية أو ترسيخ الانقسام والتبعية في السياسة العربية.
كما تجلّت هذه النزعة الوحدوية التي طبعت فكر وحركة حسيب في سعيه المتواصل لعقد الاجتماعات والمؤتمرات بين المفكّرين والمناضلين العرب لزيادة مساحات الحوار والتفاهم في ما بينهم وصولاً إلى إنشاء مؤسسات تسعى، وإن تعثّرت أحياناً، إلى التقريب بين مكوّنات الأمة وتياراتها القومية والإسلامية واليسارية والديمقراطية وتمكينها من المساهمة في صدّ الحروب المستمرة على الأمة العربية وحماية تراثها وثرواتها وآمالها في التنمية والديمقراطية وتحرير فلسطين وكل أرض عربية محتلة.
عاش حسيب حياته قلقاً على المصير العربي ورافقه هذا الشعور منذ يفاعته حتى يومه الأخير، فقد كان كالمتنبي، شاعر العرب، يعيش هذا القلق ويشتغل من داخله ويعمل على طرده ومعاينة اليقين الذي يحلم به تحت سماء عربية واحدة ترعى أبناءها على طريق التحرير والاستقلال والتقدّم.
جمع حسيب في شخصيته المتمرّدة ثورية المناضل وعلمية الاقتصادي وحماسة السياسي المهموم بالشأن العام، المشغوف بالكلمة، المنصرف للبناء المؤسساتي – ودائماً على الصعيد العربي ـــ لإدراكه العميق بأن النهضة العربية إنما تحتاج إلى أفعال إيجابية مثلما تحتاج إلى أفكار نيرة لشقّ الطريق نحو الانتصار على الذات المتخلفة، كما العدو المتوحش، فقد تركّزت أفكاره وأعماله وعلاقاته وإنجازاته وحتى أخطاؤه داخل القضية النبيلة التي التزم بها واستمر في خدمتها حتى الرمق الأخير.
وكم تعالى على جراحاته وندوب التعذيب على جسمه عندما شنّ التحالف الأميركي – البريطاني – الصهيوني حربه الظالمة على العراق، إذ تحول حسيب يومذاك إلى إذاعة دولية وعربية تندّد بالعدوان وتدعو لمقاومة الاحتلال ونصرة العراق واحتضان أهله الميامين ومؤازرة مقاومته الباسلة.

* كاتب سياسي ووزير سابق



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا