لم تنخرط معظم ساحات انتفاضة 17 تشرين في المناطق بـ«يوم الغضب» الذي امتدّ لأيام خلال الأيام الماضية. الساحات التي شهدت تحرّكات واعتصامات مفتوحة خلال أحداث 17 تشرين وما بعدها بأشهر عدة، تباينت في تفاعلها بين النأي بالنفس، من جهة، وبين ممارسة الاحتجاج وفق أجنداتها المحلية وخصوصيات بيئاتها من جهة أخرى. لكن الاعتبارات الكثيرة، التي تحكم معارضي الجنوب والبقاع وطرابلس، منعت من تحوّلها إلى أداة يستخدمها زعماء الطوائف والسياسة.
حراك الجنوب: «لا نهدي ثورتنا لأحد»!
برغم صمودها لأكثر من عام ونصف، لم تشهد خيمة حراك كفررمان، ذات الطابع اليساري، أي تحرّك احتجاجي بموازاة تحرّكات طرابلس وجل الديب والجية وسواها. «الرفاق» لم يجدوا أيّ قاسم مشترك بين احتجاجهم وبين الاحتجاجات الأخيرة. أحد الناشطين في حراك كفررمان نيبال إسماعيل، يقول لـ«الأخبار» إن الانتفاضة في الجنوب لم تخفت، ووجهتها لم تتغير: «وجهتها الثابتة ضد النظام الرأسمالي المصرفي وضد السلطة، وليست وجهتها مذهبية ومناطقية وسياسية». وفيما تنبّه ناشطو كفررمان من الانزلاق إلى لعبة الشارع؛ فضّل ناشطو حراك النبطية النزول إلى الشارع بشعاراتهم المطلبية. إحدى الناشطات، ميرنا بشارة، لفتت إلى أن التحرّك الذي سجّل بالتزامن مع «يوم الغضب» كان مماثلاً للتحرّكات التي شهدتها خيمة الاعتصام المفتوحة خلال «17 تشرين»، مع رفض الشعارات السياسية والفئوية التي رُفعت في ساحات أخرى. ولمّا لاحظ الناشطون مشاركة وجوه محسوبة على بعض أحزاب السلطة النافذة في المنطقة، قرّروا تعليق تحرّكاتهم لكيلا يشكلوا غطاء لأشخاص ينفّذون أجندات سياسية وطائفية. وشهد التحرّك خلافاً بين ناشطي الحراك والوجوه الجديدة على خلفية محاولة قطع الطريق، وهو ما رفضه الناشطون. لكن الطرقات قُطعت في الخردلي والنبطية.

حراك صور لم يسمح لأي سجال مناطقي، بأن يؤثّر على تحركاته المطلبية التي لم تتوقّف خلال الأشهر الماضية. في ساحة العلم، حيث لا تزال خيمة الاعتصام المفتوح تجمع المعارضين لأحزاب السلطة، نظّم تظاهرات عدة تحت شعاراته الثابتة: «رفضاً لمنظومة الفساد والنهب والمحاصصة والمذهبية ودفاعاً عن الحق بالعيش الكريم والمطالبة بتشكيل حكومة إنقاذية سيادية». يقول أحد الناشطين رائد عطايا: «واكبنا تحرّكات الغضب منذ اليوم الأوّل من خلال تظاهرات وقطعنا الطريق عند مدخل العباسية. لكنا تحرّكنا انطلاقاً من قناعاتنا الراسخة الثابتة». لكن غضب صور لا يشمل الدفاع عن البطريرك بشارة الراعي أو الجيش: «لا نقبل بأن نهدي ثورتنا إلى البطرك».

اعتبارات ساحات الجنوب تلك مجتمعة، توّجت في عاصمة الجنوب صيدا التي رفضت، بحسب نائبها أسامة سعد/ قطع الطرقات، واختارت التحركات الشعبية السلمية أمام مؤسسات الدولة: «سنتحرّك في الشارع ولكن بالحفاظ على سلمية التحرّكات والحماس والأهداف، مع عدم الانحراف عن أهدافنا من أجل تحقيق تطلعاتنا بالدولة المدنية العصرية الديموقراطية العادلة». وكان «التنظيم الشعبي الناصري» والقوى الوطنية قد سحبت أيديها من قطع الطرقات الذي شهدته بعض شوارع المدينة.
وبخلاف مقاطعتهم لـ«يوم الغضب»، يشارك اليوم كثير من ناشطي ساحات الجنوب في التظاهرة التي دعت إليها مجموعات وطنية ويسارية ومدنية عصر اليوم وتحمل شعارات انتفاضة 17 تشرين الأوّل المطلبية والمعيشية. وبرغم أن الأحزاب الفاعلة في هذا المجال، كـ«الشيوعي» و«الشعبي الناصري» لم تُدعَ رسمياً للمشاركة، إلا أن الكثير من المحسوبين عليهم سيشاركون. وحدها ساحة صور تمايزت بتوجيه دعوة للمشاركة بتظاهرة اليوم تحت شعار «نحو حكومة انتقالية».

حراك بعلبك مستمر
لم يغِب حراك بعلبك عن الشارع منذ أحداث 17 تشرين قبل سنة ونصف. لا تزال ساحة الشاعر خليل مطران نقطة ارتكاز ينطلق منها الناشطون إلى الشوارع المحيطة في التظاهرات. وبموازاة تحرّكات ما عُرف بـ«يوم الغضب» خلال الأيام الماضية، نظّم حراك بعلبك تحرّكات على وقع الهتافات «بوقف الانهيار الاقتصادي والمالي والوضع الاجتماعي الكارثي». الحراك في مدينة الشمس، والذي تزامن مع الدعوات للاعتصام في باقي المناطق اللبنانية، لم يعدّل في شعاراته منذ تأسيسه: «شعاراتنا مطلبية بامتياز وكل الشعارات الرنّانة التي يطلقها البعض ولا تتناغم مع مطالب الناس وشعارات الثورة الحقيقية والعامة أفل نجمها وانكفأ مردّدوها»، كما يقول الناشط في حراك بعلبك هادي مسلماني. الأخير يلفت إلى أن المجموعات المطلبية في بعلبك والهرمل ستشارك في تظاهرة بيروت اليوم «لأن إطارها يتلاقى مع شعار ساحات بعلبك الهرمل».

طرابلس «عروس الثورة»... لا الأجهزة!
في حركة الاحتجاج الأخيرة التي شهدتها طرابلس الأسبوع الماضي، اعتكف معظم أركان حراك 17 تشرين. يرى كثيرون أن من قاد التحرّكات الأخيرة هم ممن «ركبوا موجة الحراك». وبما أن «أم الفقير» مدينة يعرف الناس فيها بعضهم بعضاً، كان من السهل تصنيف المشاركين «بين موجوع أو مخبر لدى الأجهزة». مهما كانت دوافعهم، فإن الأعداد كانت هزيلة بالمقارنة مع عشرات الآلاف الذين جمعتهم ساحة النور خلال انتفاضة 17 تشرين. في المناطق التي شهدت التحرّكات، لا سيما البحصاص أو عند نقطة البالما عند مدخل طرابلس الجنوبي، لم يكن عدد المشاركين أكثر من 50 شخصاً.

وكان لافتاً في حراك الأيّام الأخيرة أنّه ما عدا اعتصام خجول في ساحة عبد الحميد كرامي، أو ساحة النور، التي أقفلها المحتجّون لساعات قليلة، قبل أن يُعاد فتحها، لم تشهد الشّوارع الداخلية في طرابلس أي حركة احتجاج أو قطع طرقات أو إغلاق شوارع، باستثناء مسيرات رمزية لعدد قليل من المحتجّين توجّهوا باتجاه بعض منازل نواب المدينة. وذلك بخلاف المداخل الجنوبية للمدينة في البالما والبحصاص، والشمالية في البداوي حيث قام المحتجون، وأغلبهم من خارج المدينة، بقطعها بشكل كامل ولساعات طويلة.

يوضح جمال بدوي، مؤسس مجموعة «حراس المدينة»، أن «جمهور الثورة ما يزال موجوداً، لكنّه اليوم في البيوت ولم ينزل إلى الشّارع»، مبدياً تخوّفه من ذلك لأنه «إذا نزل مرّة ثانية إلى الشّارع فسوف يحصل ما لا تحمد عقباه من فوضى لا نتمناها، ولأنه سيجري استغلاله من الشياطين». وجهة النّظر هذه يتقاطع معها منسق «ملتقى الجمعيات الأهلية» في طرابلس عبد الناصر المصري، الذي يؤكّد أن «الثورة لم تنتهِ بعد لأنّ أسبابها ما تزال قائمة»، لكنّه يوضح أنّ «تراجع الحراك الشّعبي في طرابلس يعود إلى اختراق أحزاب السلطة وجهات دولية له، وإلقاء البعض خطاباً طائفياً ومذهبياً ليس جامعاً ولا مقبولاً، وعدم إظهار معارضة وطنية حضارية في طرابلس، وحصول أعمال شغب وتسيّب وسلبطة، عدا عن انتشار جائحة فيروس كورونا، ما أدى إلى انكفاء النّاس تدريجياً عن السّاحة». مع ذلك، يتوافق بدوي والمصري على عدم المشاركة في تظاهرة بيروت اليوم «برغم تأييدنا لمطالب المحتجين، لكن هناك تعددية آراء بين مجموعات المحتجين».