الانفصام اللبناني الاجتماعي والسياسي، ظهر في الأيام الأخيرة، في شكل أكثر حدّة، في التفاصيل اليومية، بين الحداد على ضحايا انفجار المرفأ وسقوط المصابين وتدمير المنازل، وصناديق الإغاثة للعائلات المحتاجة وحرمان اللبنانيين من أموالهم في سنة من الذلّ، وبين حفلات رأس السنة في الملاهي والفنادق الساحلية والمنتجعات الجبلية. أما الانفصام السياسي فيزداد حدة شهراً بعد آخر، عبر مؤشرات وضعت لبنان أمام حالات خطرة من الازدواجية المتعددة.ففي ظل فراغ سياسي معيب وحكومة مستقيلة ورئيس حكومة مكلّف غائب في إجازة مثله مثل سياسيين ومصرفيين أمضوا الأعياد خارج لبنان، كانت، ولا تزال، تدور حرب أهلية على مواقع التواصل الاجتماعي، لو قدّر لأصحابها حمل السلاح في مواجهة بعضهم البعض، لما قصّروا. كمية الحقد السياسي بين مجموعات طائفية ومذهبية تنذر بالخطر، بين «المقاومين المسيحيين» و«المقاومين المسلمين»، بين العونيين والقواتيين، بين القواتيين والكتائبيين ومناصري حزب الله على خلفية مواقف إيرانية ورفع صور وأعلام، كما بين شيوعيين ومناصري حزب الله، وتذكية الخلافات حول حرب الجبل مجدداً. معارك العالم الافتراضي ليست افتراضية لأنها تعكس بقساوة نموذجاً عن رغبات دفينة، ووقائع مغطاة بقشرة رقيقة من الترتيبات الهشّة، لا تلبث أن تنكشف لحظة احتدام المواقف السياسية ربطاً بالتطورات المحلية أو الإقليمية.
خطرٌ جداً الكلام والعبارات المستخدمة بين مجموعات شبابية، بينها من لم يقاتل ولم يشهد حرباً، لا بل يفترض أن يكون جميع هؤلاء متساوين مع نظرائهم في الهمّ الاقتصادي والحالة الاجتماعية التي تدهورت منذ سنة وحتى اليوم. وخطرٌ أيضاً مستوى الاحتقان والتجييش الإعلامي والسياسي في وقت يبتعد فيه المتورّطون عن مقاربة الانهيار المالي الذي أعادهم سنوات الى الوراء. الأخطر أن هذه المعارك التي تفرز اللبنانيين مجدداً مجموعات مذهبية وطائفية، لم تستدعِ أياً من المسؤولين عن هذه القوى للجمها، رغم أنها باتت تنذر بالأسوأ، مع تفاقم الانقسام السياسي. بالعكس، فإن تصاعد وتيرتها مع كل حدث مهما كان نوعه، يُظهر رغبة في تسعير الوضع لكسب نقاط سياسية، وكأن الانتخابات على الأبواب.
معارك العالم الافتراضي ليست افتراضية تماماً، لأنها تعكس بقساوة نموذجاً عن رغبات دفينة


واللافت أيضاً أن الأحداث الأخيرة فرضت تصعيداً لكلام لم يعد أحد يخجل به، أي المطالبة بالفيدرالية علناً أو تحت عناوين مختلفة، في مقابل ارتفاع لهجة المعارضين لها بحدّة، منهم لخلفيات سياسية ومنهم لخلفيات طائفية. لكن الفيدرالية لها مقومات وأسس، وليست مجرد عناوين فضفاضة من دون وقائع يرتكز عليها الداعون إليها، والحديث هنا عن مقومات الحياة وليس عن وقائع جغرافية أو إدارية ومالية. فالتجربة في الأشهر الأخيرة، بين انهيار اقتصادي وتفشي وباء كورونا، دلّت على أن المطالبين بها غير قادرين عملياً على تنظيم أبسط الأمور البنيوية الأساسية لمجتمعاتهم. فمنذ 15 سنة، والتيار الوطني والقوات اللبنانية والكتائب مشاركون في الحكومات، والتيار منذ أربعة أعوام في قلب السلطة المركزية، وفي تولّي وزارات خدماتية، ما يفترض، وفقاً لخطاب سياسي تحت عنوان اللامركزية الموسّعة الإدارية أو الإدارية والمالية معاً، أن تكون قد عملت على تأسيس نواة لهذه اللامركزية، إلا إذا كانت قد قررت الاكتفاء بدور حماية مناطق السهر والمطاعم والحفلات والمهرجانات. فأبعد من الخدمات والتوظيفات في مصالح المياه والكهرباء والكازينو وتفعيل العلاقة مع مستثمري بلاد الانتشار وخدمات مكاتب مع وزارة العمل والعلاقة في وزارة الصحة مع بعض المستشفيات على حساب أخرى، لم تتمكن هذه القوى من تأمين أي حماية اجتماعية وخدماتية استراتيجية. وفي غياب مشروع دولة حقيقي، تارة تتستّر خلفه هذه القوى، وطوراً تنادي باللامركزية الموسعة من خلاله، يتحوّل هذا الخطاب إلى خطاب فارغ حين يفتقد الناس أدنى مقوّمات حياتهم اليومية الاجتماعية والصحية. ولولا همّة جمعيات ومبادرات خاصة لتأمين آلات تنفّس وفحوصات مجانية، لانكشفت حقيقة الفقر المتفشي وحجم الكارثة الصحية الفعلية. وفيما يسعى أبناء هذه المناطق الى ألف وساطة لتأمين سرير في مستشفى خاص في أزمة كورونا، حجز حزب الله مثلاً منذ آب الماضي، مستشفى سان جورج في الحدت ــــ الذي أصبح بحسب التعريف الرسمي «فرعاً من فروع» مستشفى الرسول الأعظم ــــ لمرضى كورونا. هذا المثل يعكس واقع مقاربة الأحزاب «اليمينية الخطاب» تجاه قيام دولة حزب الله من ضمن الدولة، أو (كما يسميه البعض فيدرالية غير معلنة) بعد قضية القرض الحسن وآلات الصرف والاتهام بوضع وزارة الصحة في تصرف الحزب، في مقابل افتقارها الى وضع خطة لمقاومة الانهيار الاقتصادي والصحي. في المقابل، يستمر السطو «المسيحي» ــــ بالمعنى الإداري لمسؤولين في جمعية المصارف ومصرف لبنان ــــ على أموال المودعين، وامتناع مستشفيات «مسيحية» عن استقبال مرضى كورونا، كما مؤسسات ضامنة «مسيحية». من دون أن ننسى أن هذه القوى نفسها قامت مع الكنيسة بحملات لمنع بيع الأراضي ودفع ملايين الدولارات لشراء بعضها، في حين أنها اليوم، ومنها من هو في قلب السلطة، عاجزة عن وضع خطة لحماية ما تسمّيه مناطقها من الفقر والجوع والمرض وتأمين الأدوية، عبر استراتيجيا واضحة وليس عبر صناديق الإعاشة. إلا إذا كان الهدف منها تحويلها حصراً إلى أوراق في صناديق الاقتراع.
ليس المقصود هنا المطالبة بمقوّمات للفيدرالية، بل الهدف هو الدعوة إلى التواضع.