رغمَ ما أوحَت به الدبلوماسية الأميركية، وحركتها مع المسؤولين اللبنانيين، مِن أنها ترمي إلى تذليل التعقيدات التي طرأت على المفاوضات غير المباشرة مع العدو الإسرائيلي، على ترسيم الحدود البحرية، إلا أن المؤشرات التي تحوط بهذه القضية تُنبِئ باستهلاك المزيد من الوقت، وبقاء الثروة النفطية تحت الماء رهينة لائحة الشروط الأميركية - الإسرائيلية. يوماً بعدَ يوم تتكشّف أحجية هرولة واشنطن و«تل أبيب» إلى توقيع اتفاق الإطار مع لبنان لانطلاق عملية التفاوض. هي صورة «الاتفاق» التي أرادتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتضاف إلى ألبوم «عمليات التطبيع» في المنطقة، وإن كانت بالنسبة إلى لبنان هي غير ذلك. أما وقد طُبِعت الصورة في الأذهان، فقد بدأت المراوغة الإسرائيلية والعصا الأميركية بالتلويح، وفقدت المفاوضات زخمها، حيث لم يعُد الهدف بالنسبة إلى العدو هو ترسيم الحدود، وحسب، بل ابتزاز لبنان بهذه الورقة - بمساعدة مِن واشنطن - لإجباره على التنازل عن حقوقه أو الذهاب إلى ما هو أبعد من ترسيم.ماذا لو فشِلت المفاوضات؟ ماذا لو أصرّ الجانِب الآخر على عدم الاعتراف بحقوق لبنان؟ ما هي الخيارات المتاحة أمامه؟ في اللقاء الأخير لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون مع الموفد الأميركي الوسيط في المفاوضات، السفير جون ديروشيه، وفي حضور السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، أكد عون أن «لبنان يريد أن تنجَح مفاوضات الترسيم، وهو متمسّك بسيادته على أرضه ومياهه». عون الذي اعتبر بأن «الصعوبات التي برزت يمكن تذليلها من خلال بحث معمّق يرتكز على الحقوق الدولية ومواد قانون البحار»، أشار بحسب معلومات «الأخبار» إلى «خيارات عدّة يُمكن اللجوء إليها في حال فشل المفاوضات، من بينها التحكيم الدولي». فبعد أن طرح الأميركيون العودة إلى الخطوط السابقة (أي خط هوف) أبلغهم عون بأن لديه وثائق غربية تُثبِت حصة لبنان في المساحة التي يُطالب بها (2200 كيلومتر مربع - وهي وثائق تعتمد على مسح جوي بريطاني قديم). وأشار إلى أنه «في حالة النزاع فإن لبنان لا يُمانع الذهاب إلى التحكيم الدولي ولو من خلال الأمم المتحدة»، بينما اعتبر الأميركيون بأن التحكيم سيستغرق سنوات وسينعكِس سلباً على لبنان، وأن المفاوضات هي بديل عن التحكيم. وكانَ من بين الاقتراحات أيضاً «طلب المساعدة من استشاريين دوليين من كبار الأساتذة العرب والأجانب، من خلال إعداد دراسات غير مُلزِمة».
لكن هل من مصلحة لبنان الذهاب إلى التحكيم الدولي؟ «التحكيم الدولي وسيلة متقدّمة من الوسائل القضائية لحل النزاعات، وهو يستند إلى إرادة أطراف النزاع. ويحوز التحكيم أهمية خاصة في مجال تسوية النزاعات الدولية بصفة عامة وبحل النزاعات الحدودية البحرية بصفة خاصة، حيث تختار الأطراف المتنازعة قضاة، وذلك وفق ما نصّت عليه المادة (33) من ميثاق الأمم المتحدة، باعتبار التحكيم وسيلة من وسائل حل النزاعات بالطرق السلمية. والتحكيم اليوم، مؤسسة قانونية قائمة بذاتها ولها أصولها وإجراءاتها الخاصة، وباتت تُدرَّس كعلم مستقل نظراً إلى أهميتها وتطورها واستجابتها لمظاهر العولمة القانونية»، بحسب كتاب (بترول لبنان في المياه البحرية / عقود وأنظمة) للخبيرة القانونية في شؤون النفط والغاز الدكتورة مي حمود والدكتور حسين العزي. الكتاب الذي يسلّط الضوء على البترول اللبناني والتحديات التي واجهها وما زال وأبرزها مسألة ترسيم المنطقة الحدودية، يُشير إلى أن «التحكيم قائم على اتفاق إرادة الأطراف، الذي يتجلى بضرورة وجود اتفاق مسبق على التحكيم وهو ما يُسمى بمشارطة التحكيم، أو يتمّ الاتفاق عليه بعد نشوء النزاع، وفي كلتا الحالتين لا بدّ من وجود اتفاق مسبق أو لاحق لتاريخ نشوء النزاع يتفق من خلاله أطراف النزاع على إحالة نزاعهم إلى التحكيم. لذا فإن التنظيم الإجرائي لمحكمة التحكيم، من حيث تشكيلها وإجراءاتها والقانون الواجب التطبيق، يخضع بطبيعة الحال لمفاوضات ولاتفاق أطراف النزاع، الأمر الذي يصعب حدوثه بين لبنان وإسرائيل». كما أن «مسألة تنفيذ الأحكام الصادرة عن محاكم التحكيم الدولي تتوقّف على إرادة الدولة التي صدر بوجهها حكم التحكيم، أي أنها مسألة متروكة لحسن نوايا الدول الأطراف».
المفاوضات غير المباشرة مسار يختلف كلياً عن التحكيم


الكلام المذكور، ونسبة إلى التجارب السابقة، يعني أن الذهاب إلى خيار التحكيم مع كيان العدو الصهيوني هو أمر غير مضمون، لأنه لا يلتزم عادة بالقرارات الدولية. هذا واحد من الأسباب التي شرحها أيضاً أستاذ القانون الدولي الدكتور حسن جوني الذي اعتبر بأن «الذهاب إلى التحكيم أو القضاء هو اعتراف ضمني بكيان العدو، خاصة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، وهي الجهة التي تلجأ الدول إليها عادةً». يشرح جوني لـ «الأخبار» فكرته بأن «الادّعاء يجب أن يحمِل صفة»، لأن «المادة 34 من نظام هذه المحكمة تنصّ على أن لا يمثُل أمامها إلا الدول». وبالتالي «إذا ذهب لبنان إلى المحكمة فهو يدّعي على العدو بصفته دولة، ما يعني الاعتراف بكيان العدو كدولة قائمة». وثانياً، حتى في حال «ربِح لبنان الدعوى أمام المحكمة، فإن تنفيذ القرار التحكيمي غير مضمون، لأن لا أحد يجبر دولة الاحتلال على تنفيذه»، خاصة أن في فقرة أخرى ينص النظام على أنه «في حال عدم الامتثال، فلمجلس الأمن أن يتدخل وينظر في الموضوع ويصدر توصية»، أي «أنه ربما يفعل ذلك أو لا». وقدّم جوني مثالاً على ذلك وهو «قضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة التي عُرضت على محكمة العدل الدولية عام 1986، والتي أقرت آنذاك بخرق الولايات المتحدة للقانون الدولي من خلال دعم المعارضة المسلحة ضد نيكاراغوا، وحكمت لمصلحة الأخيرة، لكنّ واشنطن رفضت الحكم ولم تطبقه». وإذ يكرر جوني تأكيده على أن «الاستعانة بالتحكيم هي اعتراف ضمني بإسرائيل»، أكد أن «التفاوض غير المباشر لا يعني اعترافاً، بل هو تفاوض مع جهة محدّدة لاسترجاع الحقوق، ولو كان وجودها غير شرعي، وهو مسار يختلف عن التحكيم كلياً».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا