مرّ عام على بداية الأزمة المالية والنقدية. عام وصل فيه الدولار إلى ما يزيد على 10 آلاف ليرة في بعض الأحيان. ماذا فعلت السلطة، بأحزابها وكتلها البرلمانية وسلطتها التنفيذية، للحد من هذه الأزمة ومن تسارع الانهيار؟ ما الذي ينتظره الممسكون بالقرار ليتحرّكوا؟ ولماذا كل هذه اللامبالاة؟ ربط «الإنقاذ» بعملية تأليف الحكومة، يقود حكماً إلى اعتبار أن كل يوم تأخير هو تعميق متعمّد للأزمة، يزيد من صعوبة الخروج منها، أو حتى وضع أسس الخروج منها.ما حصل منذ عام إلى اليوم هو أمران: أولاً، الانتقال من مرحلة إنكار الأزمة إلى مرحلة الإقرار بها. وثانياً، الانتقال من مرحلة الإقرار بها إلى ربط الحلول باتجاه واحد: برنامج مع صندوق النقد. صارت الحكومة ومصرف لبنان والسياسيون عبيد نظرية: لا خلاص من دون الحصول على الأموال من الصندوق ومن «سيدر».
منذ ذلك الحين، تُبنى أبراج من الأحلام التي سيُحققها هذا البرنامج. لكن حتى الطريق إلى الصندوق لم تكن واحدة داخلياً. خطة الحكومة أم خطة المصارف؟ القطاع المصرفي يدفع ثمن الخسائر أم الدولة (الناس)؟ وبعدما أحبطت لجنة تقصي الحقائق أرقام الخسائر المحددة في الخطة الحكومية، وصار لكل بند رقمان، انتقل النقاش أخيراً إلى: هل تنطلق المقاربة من احتساب الخسائر أم يتم الانطلاق من احتساب المطلوبات؟ النقاش في النقطة الأخيرة لا يزال ضيقاً بانتظار تأليف الحكومة الجديدة، لكنه لم يُلغ حقيقة أن أحداً لم يفتح أي نقاش أو حوار يتعلّق بالإجراءات التي يفترض اتخاذها بمعزل عن صندوق النقد والاتفاق معه. بدا الأمر كمن يضع البيض كله في سلة واحدة. إما صندوق النقد يُنقذنا أو نموت. لم يقل أحد ما علاقة الاتفاق مع الصندوق بإقرار الموازنة، وما علاقته بدعم بعض الصناعات والزراعات التي يحتاج إليها البلد لتغطية الاستهلاك المحلي أو لتعزيز الصادرات. لم يتقدم أحد بمشروع أو رؤية للتعامل مع النظام الضريبي والإنفاق وخدمة الدين والأجور… ألم يكن الوقت مناسباً لإقرار قانون حصري لمكافحة الاحتكار وحماية المنافسة؟ وأبسط من ذلك، لماذا تركت مشكلة استيراد «الفيول أويل» التي تستنزف الدولارات من دون معالجة؟ كل من يعمل في القطاع يدرك أن جزءاً من الدولارات الطازجة يذهب بدل عمولات وتركيبات سياسية. هل تغير شيء بعد الانهيار؟
منذ بداية العام أو حتى منذ ستة أشهر، لو أقرّ قانون جدي للكابيتال كونترول، ولو نفذت إجراءات نقدية توازن بين عرض النقد والمؤشرات الاقتصادية، ولو تم توفير التسليفات لبعض المشاريع الحيوية، أو على الأقل لو تم تطوير مشروع دعم الأسر الأكثر فقراً، لكان أمكن عكس اتجاهات الأزمة من التدهور إلى التعافي.
يختصر أكثر من خبير اقتصادي الموقف بالإشارة إلى أنه: لم يحصل شيء، ولم يؤخذ أي إجراء للحد من تمادي الأزمة.
جل ما حدث كان تقاذف المسؤوليات. الحكومة ورئيسها حمّلا المسؤولية كاملة إلى حاكم مصرف لبنان، لكنهما مع ذلك بقيا ينتظران إجراءاته، بدلاً من أن يُسحب القرار من بين يديه، هو الذي لُزّم، منذ ما بعد عام 2005، القرارات المالية والاقتصادية. لكن على افتراض أن ذلك كان مبرراً للطبقة الحاكمة طوال المدة السابقة، فهو حكماً لم يعد مفهوماً ولا مبرراً اليوم. ما حصل كان العكس: رياض سلامة متّهم. لكن بدلاً من كفّ يده، أي على الأقل إعادة الصلاحيات التي يملكها إلى سياقها القانوني، كان الجميع ينتظر الإجراءات التي يمكن أن يقوم بها! حتى الكابيتال كونترول، وهو في صلب مهام السلطة التشريعية سحب من البرلمان لأن رياض سلامة لديه ملاحظات عليه، هي ليست مرتبطة سوى بالكذبة المتعلقة بالاقتصاد الحر وحرّية نقل الأموال. التأجيل سيد الموقف في كل ما يتعلق بمواجهة الأزمة. حتى تشريع الضرورة، الذي كان يستعمل في الصراعات السياسية، لم يعد ضرورياً.
كذبة التدقيق الجنائي، التي بدأت كبيرة وتحوّلت مع الوقت إلى مزحة، انتهت. أغلقت كل الأبواب بحجة المادة ١٥١ من قانون النقد التسليف، ولو أراد المشرّع أن يفعل شيئاً لكان مجلس النواب قد اجتمع في يومين وأقرّ تعديلها. لكن بدلاً من ذلك، ذهب النائب نقولا نحاس، أول من أمس، لينعى التدقيق من أساسه، بسؤاله عن الخلفيات السياسية التي دعت إلى إقراره، قبل أن يؤكد أنه «يجب ألا نضيع الوقت بهذا الموضوع وهو فعلاً مضيعة للوقت، ونحن لا نراهن على شيء بتمديد العقد مع شركة التدقيق الجنائي، ولن يحصل أي متغير إيجابي إن لم يعدّل قانون النقد والتسليف، ولا يمكن أن يعدّل هذا القانون بالجو السياسي الحالي».
كذبة التدقيق الجنائي، التي بدأت كبيرة وتحوّلت مع الوقت إلى مزحة، انتهت


من يحاول ضرب التدقيق الجنائي في مصرف لبنان لديه ما يبرر به موقفه. التدقيق في كل مؤسسات الدولة واجب، لكن المشكلة أنه كما في مصرف لبنان، كذلك في باقي المؤسسات، من يملك قرار التدقيق هو نفسه المتضرر منه. وإلا بماذا يفسر، في عز الحاجة للوصول إلى الحقائق التي أوصلت البلد إلى الحضيض، عدم التحرك أو مطالبة ديوان المحاسبة بإنقاذ حسابات الدولة، التي أعيد تكوينها وتنتظر تدقيق الديوان فيها؟ ألا يكشف وجود الحسابات بعضاً من خبايا المغارة؟
التعامل مع صندوق النقد على أنه الحل لكل المشكلات لم يكن بريئاً. الصندوق يتدخل لمعالجة ميزان المدفوعات، لكن المسائل الأخرى هي مسؤولية الدولة، التي لا تزال تنام على حرير. يدعو مصدر متخصص إلى مراجعة المبدأ. يسأل: هل حقاً ثمة في السلطة مَن يُصدّق أن البلد انهار؟ باختصار، للمودعين 140 مليار دولار في النظام المصرفي، وكل المعنيين يتعاملون معها على أنها هالكة، ولذلك، فإن الأزمة تحت السيطرة! وهؤلاء أنفسهم لا يتعاملون مع الهجرة والبطالة على أنهما قضاء على أي فرصة للنهوض بالبلد، أكثر مما يتعاملون معهما على أنهما فرصة لزيادة التحويلات!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا