لا يشبه دور فرنسا ولا أهدافها الاتجاه الاميركي. واشنطن لم يعد يعنيها لبنان كما كانت حاله قبل سنوات. الخليج يطبّع ويرسم مستقبلاً جديداً للعلاقات مع اسرائيل، ولبنان ساحة باتت متعبة. أقصى ما تتكبده واشنطن أن مسؤولي الادارة فيها قابعون في مكاتبهم، يقررون متى ستصدر العقوبات على لبنانيين بتهم الفساد أو التنسيق مع حزب الله ومن ستشمل. في لحظة انتظار قرار الرئيس المكلف مصطفى أديب، كانت واشنطن تصدر لائحة عقوبات جديدة، ومرة أخرى تثير التساؤلات، بعدما أرجأت قرار استهداف من تهددهم بالعقوبات من سياسيين من قوى مختلفة الاتجاهات، الى توقيت آخر. لباريس هموم اخرى، اليونيفل وجنودها في جنوب لبنان، النفط، وأموال سيدر والشركات الفرنسية المتأهبة للعمل والاستثمار فيه، ومشاكل تركيا مع أوروبا في المتوسط. كل ذلك لا يهم واشنطن. لكنه بقدر ما يعني باريس التي حاولت الدخول بقوة الى الرمال اللبنانية المتحركة، فهي ارتكبت اخطاءً كان يفترض بعد ملاحظات كثيرة وصلتها، وتجارب سابقة وخبرة سياسييها وديبلوماسيها واستخباراتها، ان تكون على قدر اكبر من الانتباه الى الفخاخ اللبنانية، كي تتفاداها. ولا تنحصر هذه الاخطاء بتخبط فريقها بين بيروت وباريس فحسب، بل ايضاً بسبب أداء نمّ احياناً عن حسابات خاصة لبعض اعضاء فريقها، كما عن جهل «مستغرب» بطبيعة العلاقات الداخلية والاسس السياسية البديهية، ومدى شخصانية القوى السياسية التي تتصرف وكأن لا انهيار اقتصادياً موجوداً ولا استحقاقات مالية ولا انفجار هزّ العاصمة وتسبب في مئات الضحايا. غامرت باريس كثيراً في الساعات الاخيرة، وسط ارتفاع اللهجة الاميركية حيال علاقتها بحزب الله. وليس تفصيلاً تسجيل لقاءات واتصالات فرنسية متكررة مع حزب الله، بعيون أميركية أو فرنسية داخلية تراقب بدقة حركة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وفريقه الديبلوماسي. دخول باريس اليومي على خط الاتصالات مع لبنان ودول المنطقة، يعكس رهاناً على إنقاذ ماء الوجه الفرنسي في الحضور الاقليمي. من هنا تبدو المفارقة أن تتبنى شخصيات صديقة لفرنسا نبرة الامتعاض منها، لأنها «ترضخ» لحزب الله في موضوع وزارة المال، علماً بأن باريس لم تشترط إبعاد الحزب عنها، فيما يقف حزب الله محذراً من استهداف المبادرة الفرنسية.أوحي للبعض، خصوم حزب الله وحلفائه في لبنان، أنهم قادرون على استغلال موقف باريس وإقناعها بتخطى الثنائية الشيعية في وزارة المال تحت ستار المداورة، من دون احتساب أن هذه الوزارة بتعبير أحد السياسيين المطلعين على المفاوضات الفرنسية أصبحت «بعد العقوبات الاميركية مطلباً اكثر إلحاحاً»، عدا عن الجانب الميثاقي فيها، الذي يركز عليه الثنائي. لكن مع تدخل فرنسي أو من دونه، ثبت حزب الله مقولة أن لا حكومة من دونه، سواء كانت حكومة اختصاصيين أم مطعمة أم وحدة وطنية. فهو قدم تسهيلات أولية عبر إعطاء الضوء الاخضر لاستقالة حكومة الرئيس حسان دياب ومن ثم الموافقة على تكليف أديب، لكن التسهيل يقف عند هذا الحد. فكيف يمكن أي مفاوض في العلن وفي الظل الافتراض أن حزب الله سيعطي للرئيس سعد الحريري من كيسه الخاص، مكافأة على موقفه من قرار المحكمة الدولية؟ فهو وإن كان مرتاحاً لردّ الفعل هذا، لكنه لن يبقى أسيره.
استعجل رؤساء الحكومات السابقون استخلاص نتائج مسبقة وانتصارات وهمية


ما غامر به رؤساء الحكومات السابقون من جهتهم، وسيدفع ثمنه الرئيس سعد الحريري سياسياً للمرة الألف، أنهم اعتبروا الفرصة سانحة واستعجلوا كالعادة تكبير الخطوات واستخلاص نتائج مسبقة وانتصارات وهمية. وكذلك الذهاب نحو تأليف حكومة «أمر واقع» يسمّون فيها شخصيات تمثّل مفتاحاً أساسياً في المقاربة المالية والاقتصادية التي ستكون عنوان المرحلة المقبلة ومعها الاستثمار السياسي والاقتصادي لهذا الفريق، وفي طليعته الحريري. استعجال هذا الفريق بني على معطيات ورهانات خاطئة تتعلق حصراً بالإيحاءات الفرنسية حول القطاع المالي والاقتصادي، من دون الأخذ في الاعتبار أي معطى سياسي محلي أو إقليمي، علماً بأن أي إصلاح اقتصادي قائم على «سيدر» والمفاوضات مع صندوق النقد يحتاج الى موافقات وأموال عربية وأميركية غير متوفرة حتى الساعة. كما أنه بني من جهة على وقائع تتعلق بالموقف الفرنسي وحده، ومن جهة على إغفال التشدد الاميركي بدليل التلويح بعقوبات خارج إطار حزب الله، وإهمال الملف الحكومي اللبناني الى الحد الاقصى. وما التأرجح في مواقف هؤلاء وتصرفاتهم حيال استشارات رئيس الجمهورية، وارتباك الحريري، سوى مؤشر اضافي الى أن سوء ادارة معركة التأليف، بعد تسجيل تقدم بتسمية أديب، عادت لتضيف الى رصيده خسارة جديدة عليه، وقد بات رهن اتصال قصر الاليزيه وتمنياته.
هذه الخطوات الناقصة ستشكل في الساعات المقبلة محكاً جديداً للاختبار، كي لا تأتي حكومة بمثابة نسخة مقلدة عن حكومة دياب المستقيلة، خصوصاً في ضوء انفجار الخلافات السياسية بين القوى السياسية قبل أن تتألف الحكومة: الرئيس نبيه بري والحريري، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وبري وحزب الله، والتيار الوطني الحر وبري. وبذلك يمكن تلمس محاولة فرنسية جديدة للحد من الأضرار والخسائر لدى القوى السياسية التي تعتبر أن تسليمها بوزارة المال يعتبر انقلاباً على اتفاق المداورة، ما يفترض تأمين مخارج مشرفة لها عبر توزيع مغانم وزارية عليها، علماً بأن اساس هذا الاتفاق انطلق من واقعة عدم تجديد تسليم وزارة الطاقة للتيار الوطني الحر، وأن هناك من افترض أن وزارة المال يمكن أن تعود للسنّة في إطار مشروع اقتصادي على غرار تجربة الرئيس رفيق الحريري الاقتصادية التي احتاج فيها اليها. فحتى لو تم تخطّي عقدة المال، ستكون حقائب السنّة والموارنة ايضاً على المحك؛ فبعد تمسّك السنّة أكثر من مرة بوزارة الداخلية، يطالبون ببديل وازن، كما رئيس الجمهورية الذي لن يقبل حصة لا توازي موقع الرئاسة وتمثيلها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا