إنه العام 1994. أوقف سمير جعجع وتم حل حزب «القوات اللبنانية» ودب الرعب في الركب. الناس من تحت، لجأوا الى التورية والتقية، هاجر الألوف الى آخر الدنيا، ولجأ آخرون الى قيادات الامر الواقع خشية التعرض للاضطهاد السياسي. لكن المؤسسات التي تعيش على الارض واجهت استحقاق معركة الوجود. كان في الواجهة بيار الضاهر مع المؤسسة اللبنانية للارسال، وانطوان الشويري مع مجموعته الاعلانية. مارس الاثنان اعلى درجة من التقية السياسية التي تفرض عليهما البحث عن حلول سريعة، والحلول هنا ليست مع قوى لبنانية بارزة، بل مع سوريا مباشرة. وكان سليمان فرنجية الجسر الاكثر صلابة الذي يوفر الخدمة الاهم، وهي البقاء على قيد الحياة.مضى الثنائي انطوان الشويري وبيار الضاهر قدماً في تعزيز شبكة الامان. حقل الاعلام اساسيّ، ويمكن من خلاله تغطية الكثير من الاعمال التجارية والسياسية والاجتماعية. لكن التحدي الاضافي كان في مواجهة تركيبة داخلية جديدة يقودها رفيق الحريري. المؤسسة اللبنانية للارسال وجدت في الحريري خصماً ساعياً الى ممارسة نفوذ هائل في الوسط الاعلامي، والشويري وجد فيه خطراً على مؤسساته الاعلانية. وكان اللجوء الى فرنجية وصلاته السورية، يوفر حماية من السوريين انفسهم ومن الحريري ايضاً. ولطالما شكا الحريري سلوك الضاهر الى السوريين، وكان يرتب مع الشويري صفقات جانبية لمنع الانفجار. لكن الاخير كان قد قرر توسيع شبكته الاعلامية لمواجهة ما سمّاه يومها «اجتياح الحريري لكل ما يتصل بعالم المال والاعمال». وشهدت بيروت معركة قاسية تحت عنوان إلغاء الوكالات الحصرية. الحريري تصرف على ان التعديل السياسي والاقتصادي الذي شهده لبنان لا بد ان يشمل القطاع التجاري فيه. والآخرون نظروا الى الامر على انه محاولة اسلامية لإسقاط واحدة من اهم القلاع التي تميز بها المسيحيون. وظلت المواجهة قائمة على هذا النحو، لكن الاختراق الجدي الذي حققه ثنائي الضاهر - الشويري كان في الوصول الى قلب الخليج العربي، وبناء شبكة من العلاقات والاعمال هناك، وفّرت سوقاً إضافية تغذي معارك بيروت.

جعجع والضاهر في تشييع أنطوان الشويري (مروان طحطح)

انه العام 2005. استفاق الثنائي الضاهر - الشويري على خبر المئة مليون. لقد ربحا في وقت واحد جائزتي اللوتو واليانصيب. قُتل رفيق الحريري وخرج الجيش السوري من لبنان. لم يكن الرجلان يتوقعان مثل هذا في كل احلامهما. لكن الامر لم يكن ليستوي من دون مظلة سياسية. وهنا برزت المشكلة. فسمير جعجع الذي كان راعياً للاثنين، وكل من زاويته ولكل أسبابه، غادر السجن على هيئة رجل آخر. أراد استعادة نفوذه الكبير، سواء بالسيطرة من جديد على المؤسسة اللبنانية للارسال، أم من خلال شراكة كاملة مع مجموعة الشويري، لا الاكتفاء بحصة تأتيه على شكل مساعدات وتبرعات، وهي اصلاً ظلت تتوافر لمريدي جعجع المخلصين طوال فترة سجنه.
لكن جعجع نفسه، وجد ايضا انه امام اشخاص من نوع مختلف، وامام مؤسسات كبيرة وكبيرة جداً، ولديها نفوذها وعلاقاتها المحلية والاقليمية والدولية. على ان الشويري، الذي صار بيضة الذهب، كان قد وجد لنفسه مكانة كبيرة في السوق الاعلانية العربية، من بيروت الى دبي الى السعودية والى مصر والجزائر واماكن اخرى من العالم العربي. وصل الشويري الى مستوى تمثيل اعلاني لنحو 35 مؤسسة تلفزيونية واذاعية وصحافية، وباتت شركته منتشرة في مراكز كثيرة من العالم، وبين يديه حيلة كبيرة اسمها شركة ابسوس للاحصاءات، والتي ظلت تعمل في خدمة برامج الشويري الاعلانية في لبنان وخارجه، الى أن فقدت مصداقيتها في لبنان وطردت من سوق مصر، وحجّمت في بقية الاسواق العربية وصولاً الى أن تبرّأت المؤسسة الام في فرنسا من اعمال مؤسسة بيروت.
لم يكن الشويري ينتظر احداً لتعزيز مملكته. لكن مصدر الاموال الرئيسي لا يكون في لبنان. وخروج رفيق الحريري من المشهد لم يفِده في لبنان وحسب، بل أفاده اكثر في السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة. وهو هناك بنى شبكة علاقات مع رجال اعمال كانوا يحسدون رفيق الحريري على نفوذه داخل المملكة، ونجح في الحصول على ثقة ومبايعة اكبر المؤسسات الاعلامية الترفيهية، وهي مجموعة «mbc»، حيث نفوذ قسم من عائلة الحكم في السعودية الى جانب دار»الحياة» العائدة لقسم آخر من العائلة نفسها. وهو لعب دوراً في تعزيز حضور هاتين المؤسستين في اكثر من عاصمة عربية، خصوصاً في دبي، حيث كان السباق الى اطلاق ورش جديدة اهمها في قطاع اعلانات الطرقات.
لكن ثمة ما تغير. القدر خطف الشويري، وتولت عائلته، وخصوصاً زوجته روز سلامة ونجله بيار، ادارة المؤسسة في آخر حياته ثم من بعده. لكن ما تغير ليس غياب الحماسة والشغف مع رحيل المؤسس، وحسب، بل تطورات لم تكن في الحسبان، أبرزها الانقلاب الكبير في السعودية ومجيء محمد بن سلمان الى الحكم. وهو الرجل الذي يجمع الكثيرون على انه إن كان كارهاً لشعب، فهو الشعب اللبناني.
عند إطلاق ابن سلمان معركته الداخلية ضد خصومه، لم يكن يعبث معهم. كان هدفه ولا يزال إخضاع الجميع، إما بولاء يترك لنفسه حق التثبّت منه يومياً، أو السيطرة على مواقع النفوذ الإعلامي والتجاري. وإبّان رحلة الاحتجاز لعدد من كبار الشخصيات في فندق الريتز، كان الوليد الإبراهيم، صاحب الحصة الأكبر من مجموعة «mbc» أحد النزلاء. يومها جرت عملية نقل ملكية غالبية الأسهم الى رجال ابن سلمان، إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحدّ. أراد رجال طويل العمر السيطرة على المداخيل غير المباشرة، ووجدوا قبالتهم مجموعة الشويري الإعلانية. حاول الإبراهيم - بعد عقد صفقة مع ابن سلمان - المحافظة على العقد مع الشويري، لكن ابن سلمان الذي مارس المرونة الزائفة، كان يعدّ لإنشاء مجموعته الإعلانية الخاصة، وهو تولّته «مجموعة المهندس القابضة». الأخيرة مجموعة إعلانية واستثمارية تمتلك أعمال «الشركة العربية للتعهدات الفنية المختصة» بالإعلانات في السعودية.
يوم أمس، أعلنت قناة «mbc» أنها أنهت تعاقدها مع شركة الإعلانات اللبنانية التي يديرها بيار الشويري


يوم أمس، أعلنت قناة «mbc» أنها أنهت تعاقدها مع شركة الإعلانات اللبنانية التي يديرها بيار شويري، موضحة أنها بصدد إطلاق شركتها الخاصة للتسويق الإعلاني على قنواتها تحمل اسم «mbc للخدمات الإعلانية»، وذلك بالشراكة مع «مجموعة المهندس القابضة» التي ستتولى الملف الإعلاني ابتداءً من بداية العام المقبل.
وقال عبد الإله الخريجي مؤسس ورئيس مجلس إدارة «مجموعة المهندس القابضة» إن «التحديات في السوق الإعلانية كبيرة، ونسعى لأن يكون تعاوننا مع المجموعة عاملاً مساهماً في خدمة أسواقنا وعملائنا ومجتمعاتنا».
الجانب السعودي لديه ما يكفي من الحجج لخطوته هذه. يأتي في مقدمها قرار «سعودة كل الوظائف والمهام فيها، وأولّها القسم الإعلاني الذي يعتبر الأهم في القناة». مع الإشارة هنا الى أن ابن سلمان، ومعه حكام الإمارات العربية المتحدة، يدعمون إدارة مباشرة من قبلهم لكل المحتوى الإعلامي والإعلاني لقنوات الخليج، من أجل مواكبة التطورات الجديدة وتحديداً بعد التطبيع الإماراتي - الإسرائيلي. فعلى رأس بنود التطبيع وضْع قيود إضافية على الإعلام تتناسب مع المرحلة الجديدة.
انهيار الإمبراطورية؟

الشويري ظلّ يتجنّب زيارة السعودية، وفشلت كل الوساطات في إقناع السعوديين بالعفو عنه


بدأ تراجع السوق الإعلانية في العالم عموماً، وفي العالم العربي وفي لبنان، منذ سنوات عدة. لكن ما حصل في الأعوام الثلاثة الماضية، فرض واقعاً قاسياً على الجميع، وخصوصاً على العاملين في الحقل الإعلاني، وجاءت الخسائر لتصيب مجموعة الشويري في أكثر من مكان. فهو خسر مصر سابقاً، ويقال إن المخابرات العامة المصرية هي التي تولّت طرده من القاهرة وإبعاد كل مؤسسة على صلة به. ثم كانت الأزمة في لبنان عنواناً لخسائر كبيرة انعكست على الحصص الإعلانية لمؤسسات مرئية ومسموعة ومكتوبة يدعمها الشويري. وصارت المجموعة تتحدث عن تمويل ساحة لبنان من فائض أرباح الخليج. ولما بدأت الأزمة تتفاقم في الخليج، أقفل الشويري شركة الخدمات الخيرية، وأعاد تنظيم العقود الإعلانية مع جميع الوسائل العاملة معه، مسقطاً مبدأ الضمانات المسبقة التي توفر لهذه الوسائل تمويلاً مريحاً على مدى العام، وهو ما بدأ ينعكس تراجعاً في موازنات هذه الوسائل، وخصوصاً «المؤسسة اللبنانية للإرسال»، وصحيفتي «النهار» و«لوريان لو جور». لكن القرار الذي صدر أمس قد يشكل الضربة القاضية لمجموعة الشويري، وسيفرض عليها إعادة تنظيم حساباتها. ما بقي لها في الخليج، محطة تلفزيونية في دبي، لكنها ليست من الفئة الأولى، وإعلانات طرقية من بينها شركة صغيرة في السعودية تمت ملاحقة صاحبها بيار أبو جودة من قبل فريق ابن سلمان، علماً بأن رجال الأخير كانوا يناقشون دوماً حجم الأرباح المنفوخة في عمل شركة الشويري، ووصل الأمر إلى حدّ السؤال عنه لإخضاعه للتحقيق، ما اضطرّ بيار الشويري الى السفر الى باريس، وامتنع حتى عن زيارة دبي لفترة من الوقت، خشية تسليمه الى السعودية، قبل أن يخرج الوليد الإبراهيم من سجنه، ويعيد تنظيم الأمور. ومع ذلك، فإن الشويري ظلّ يتجنّب زيارة السعودية. وفشلت كل الوساطات السياسية والتجارية التي قام بها أصدقاء للرجل من الإمارات أو من لبنان في إقناع السعوديين بالعفو عنه. حتى إن سمير جعجع فشل في انتزاع موافقة سعودية على وساطة قام بها مباشرة، أو تلك التي قام بها نيابة عنه رجله الإعلامي - الإعلاني فادي سلامة.

بؤس العام 2020... على الشويري ولبنانيي mbc

يعتبر العام 2020 أكثر الاعوام سوءاً على مجموعة الشويري، إذ خسرت فيها أكثر من نصف الاعلانات بسبب أزمة فيروس كورونا. كما خسرت العقود التي وقّعتها سابقاً وفسخت مع أهم الشركات التي تعنى بالسيارات والمجوهرات والفنادق. ومنذ سنوات، تعالت الأصوات ضد تمدّد الشويري في السوق الخليجي، مطالبين بوضع حدّ لها واحتكار السوق الإعلاني بإعلانات جلبت ثروة طائلة لأصحابها.
فكّ التعاقد بين mbc والشويري سيكون بداية التغيرات في الشبكة السعودية التي تمر بفترة تغيرات حالياً بعد تراجع سوق الاعلانات فيها لأكثر من 60 في المئة إثر فيروس كورونا. كذلك فإن التغيير الحاصل في السوق الاعلامي ودخول منصات الستريمينغ المعروفة مثل «نتفليكس» و«شاهد»، تطلّبا تغييراً بالتعاون مع السوق الاعلاني.
الخطوة لن تكون سهلة على القناة، وسط كلام عن الاستعانة ببعض الخبرات لدى موظفي «شويري غروب» لتأسيس الشركة الجديدة. لكن تلك المهام ستكون صعبة على مجموعة mbc لكون الشويري لها عقود حصرية لشركات عالمية في نطاق الشرق الأوسط، وهذه الشركات تعلن حالياً على شاشة قنوات المجموعة.


الخطر الأكبر حالياً على اليد العاملة اللبنانية في mbc في دبي والتي تواجه خطر صرف الموظفين. فالشويري تشغّل مئات العاملين في mbc، وبعد رحيلها بدأ التساؤل حول مصير هؤلاء، خاصة أن العقود التي كانت تتم بين الطرفين كان يرعاها لبنانيون معروفون في الشبكة.
الديوان السعودي كانت له كلمة الفصل في فك التعاقد، على اعتبار أن الديوان بات يملك قرابة 60 في المئة من أسهم mbc بعدما خسر الوليد الابراهيم الحصة الأكبر إثر اعتقاله. وباتت mbc تحت عباءة ابن سلمان، وتشكّل مجلس الادارة برئاسة الابراهيم نفسه، ولكن تمّ تعيينه صورياً وتوكّل ابن سلمان بجميع القرارات التي تتعلق بإدارة الشبكة وطالب بسعودتها والتضييق على اللبنانيين لأسباب سياسية وطائفية.
مارك أنطوان داليوين الرئيس التنفيذي لـ mbc والذي عيّن قبل عام مكان سام برينيت الذي قدم استقالته، جاء بمهام إبعاد اللبنانيين من القناة السعودية. وعلى رأس أولويات الرئيس التنفيذي كان فكّ التعاقد مع الشويري وصرف قدامى موظفي mbc اللبنانيين.
وكانت «مجموعة المهندس القابضة» التي باتت من أهم الشركات السعودية، قد تعاقدت مع الشويري الأب في التسعينيات من القرن الماضي، وتشاركا معاً في التسويق والاعلان لمجموعة كبيرة من المنتجات. ولكن اختلف الطرفان لاحقاً وفضّا الشراكة، ومنع الشويري فترة طويلة من الدخول والعمل في المملكة.
خروج مجموعة الشويري من السوق السعودية، يعني خسارتها 90 في المئة من أعمالها. وما بقي لها في الخليج ولبنان لا يشكل عنصر قوة أو ضمانة، ما يعني انها تتجه الى المزيد من خطوات التقشف. وبعد ان أخرج آل الشويري أكثر من 150 موظفاً من مؤسساتهم خلال الاعوام القليلة الماضية، يجري الحديث اليوم عن الشروع في خطة الاستغناء عن القسم الاكبر من العاملين المتبقين، والحجة ببساطة: ليس عندنا اشغال نقوم بها!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا