جاءت مقابلة سلامة مع موقع «أرب نيوز» السعودي الصادر بنسخته الفرنسية، كمحاولة لتلميع صورة الرجل الذي تدور حوله شكوك وشبهات متصلة بانهيار النموذج الاقتصادي في لبنان. إنها صورة التناقضات المبنية على أقاويل تجتزئ من القوانين ما يتناسب مع اتجاهاتها. كيف يقول سلامة إن الودائع موجودة في الوقت الذي يقرّ فيه بأن خسائر مصرف لبنان بلغت 81 مليار دولار. فمهما كانت أسباب الخسارة، هناك نتيجة واحدة: الأموال لم تعد موجودة. سلامة لديه رأي معاكس. هو نفسه يبرّر إقراض الدولة طوال سنوات وجوده كحاكم لمصرف لبنان بمادة في قانون النقد والتسليف تشير إلى «الاستثناء» ويغفل قيود الاستثناء والمادة التي تحدّد «القاعدة». هو نفسه يتحدّث عن الشفافية في معرض تكليف شركتين بتدقيق حسابات مصرف لبنان لمدّة 27 عاماً حتى أصبح معهما كالإخوة وربما أكثر. هو مستعد لدفع 4٫6 مليارات دولار لسداد ديون اليوروبوندز، لكنه ليس مستعداً لدعم السلع الغذائية للناس في أزمة قاتلة. هذه هي صورة تاجر الأدوات المالية.فرغم كل الملاحظات التي تدور حول تقارير مدققي الحسابات في بيانات مصرف لبنان المالية (راجع مقالة جينا الشمّاس في ملحق رأس المال) وسقوط صدقيتها، يتمسّك سلامة بأن العمليات التي تنفذها شركتا «ديلويت اند تاتش» و«ارنست اند يونغ» منذ 1993 هي شفافة وكافية، بعد إرسالها نتائجها إلى صندوق النقد الدولي، لتكون تدقيقاً دولياً يبدّد الشكوك. طبعاً، لم يرغب سلامة في التطرّق إلى الرأس السلبي للمدققين عن بيانات عام 2018 التي صدرت متأخرة سنة ونصف بسبب إخفاق المدققين في الاطلاع على الحسابات والتأكّد من العمليات التي أبرزها.

(هيثم الموسوي)

وكي يبرّر سلامة مواصلة إقراض الدولة، يتذكّر فجأة المادة 91 من قانون النقد والتسليف التي «تُلزم مصرف لبنان بتمويل الحكومة عندما تطلب ذلك»، ثم يشير إلى أنه في «الموازنات التي أقرّها مجلس النواب، طُلب منّا إقراض 6 مليارات دولار بالليرة اللبنانية بفائدة أقلّ بنسبة 1% من معدلات الفائدة الحالية، وفي 2019 صدر قانون آخر يطالب مصرف لبنان بإقراض 3٫5 مليارات دولار بالليرة وبفائدة 1%، وفي موازنة 2020 طالبونا بسداد 3 مليارات دولار».
إذاً، هي مسألة قانونية. لعلّ سلامة تغافل أو غفل عن المادة 90 التي تنصّ على الآتي: «باستثناء تسهيلات الصندوق المنصوص عليها بالمادتين 88 و89 فالمبدأ أن لا يمنح المصرف المركزي قروضاً للقطاع العام». أما المادة 91، فهي تشير إلى الاستثناء المقيّد كونها تنصّ على الآتي: «إلا أنه، في ظروف استثنائية الخطورة، أو في حالات الضرورة القصوى، إذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي، تحيط حاكم المصرف علماً بذلك. يدرس المصرف مع الحكومة امكانية استبدال مساعدته بوسائل أخرى، كإصدار قرض داخلي، أو عقد قرض خارجي، أو إجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الاخرى، أو ايجاد موارد ضرائب جديدة... وفقط في الحالة التي يثبت فيها أنه لا يوجد أي حل آخر، وإذا ما أصرّت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب...».
عملياً، إن المادة 91 لا تطبّق إلا في ظروف استثنائية الخطورة أو ضرورة قصوى، فما هي هذه الحالات التي فرضت على سلامة إقراض الحكومة أكثر من 20 سنة؟ علماً بأن قوانين الموازنة، أو القوانين الخاصة التي صدرت في 2018 و2019 و2020 لا تفرض على مصرف لبنان أي خطوة لإقراض الحكومة، بل هي عبارة عن إجازة من مجلس النواب للحكومة بإصدار سندات خزينة بالعملات الأجنبية، أي إن مجلس النواب يعطي موافقته المسبقة للحكومة بالاقتراض بالعملات الأجنبية. في غالبية الأحيان كان الاقتراض يتم من السوق مباشرة وليس من مصرف لبنان. لم يجبره أحد على تمويل الخزينة كما يزعم.
يبني سلامة سنداً قانونياً في غير محلّه ليبرّر أيضاً الهندسات المالية قائلاً: «عندما تنظر إلى العمليات التي نُفّذت بين مصرف لبنان والمصارف، والأرقام بين 2017 وحزيران 2020 ترى أن البنك المركزي أصدر سيولة بالعملة الأجنبية للسوق للمصارف، وقام بتحصيل العملات من المصارف. ستندهش عندما تجد أننا ضخينا عملة أكثر بكثير مما أخرجناه: 11.5 مليار».
أفعال تستحق التصفيق! ضخّ مصرف لبنان 11٫5 مليار دولار بأي عملة؟ طبعاً بالليرة. بالفعل لقد ضُخّت هذه الأموال مقابل الدولارات التي أودعتها المصارف لدى مصرف لبنان بتشجيع من هذا الأخير، رغم علمه بأنها أموال المودعين. لكن ما هو مصدر هذه الأموال؟ لم يعترف سلامة. لعلّه خائف من الإقرار بأنها أموال لم تكن موجودة بل طبعها. أي إنها أموال عامة.
الناس يشكون من هيركات بحكم الواقع وسلامة يفسّرها بوصفها علاقة «يحدّدها السوق والزبون»


سلامة تراجع في المقابلة عن الغرور بأنه رمز استقرار الليرة، مشيراً إلى أن تطميناته كانت تشمل استقرار النقد ولم تكن تشمل المالية العامة. هذا الإيحاء بأنه لم يكن يعلم، أو يدرك، ما كان يحصل، يجعله راسباً في الحدّ الأدنى. إلا أنه لا يكتفي بذلك، بل يلقي باللائمة على «الصدمات المتتالية» التي ضغطت على المصارف وخلقت حالة ذعر بين المودعين، بما في ذلك إغلاق المصارف لمدة شهر أثناء بدء الاحتجاجات، فتحوّل الاقتصاد اللبناني إلى «اقتصاد نقدي» وفقد الناس الثقة بالنظام. كذلك يلوم سلامة الحكومة على تخلّفها عن سداد اليوروبوندز «كنت شخصياً ضدها، وعبّرت عنها رسمياً». كان سلامة على استعداد لدفع 4689 مليون دولار من أصل وفوائد سندات اليوروبوندز، لكنه اليوم يحذّر من استنفاد الاحتياطيات بالعملات الأجنبية إلى حدود الاحتياطيات الالزامية. ولهذه الأخيرة قصّة أخرى، إذ إنه في القسم السادس من قانون النقد والتسليف، وتحت عنوان «العمل في التأثير على السيولة المصرفية وعلى حجم التسليف»، خوّلته المادة 76 في إطار «الإبقاء على الانسجام بين السيولة المصرفية وحجم التسليف وبين مهمته العامة... إلزام المصارف بأن تودع لديه أموالاً (احتياطي أدنى) حتى نسبة معينة من التزاماتها الناجمة عن الودائع». لكنه ها هو اليوم يتذرّع بأن القانون يمنعه المسّ بالاحتياطيات الالزامية، بينما هو قد خلق كتلة نقدية بالليرة تفوق 17 ألف مليار ليرة خلال بضعة أشهر، مفلتاً تضخم سعر الصرف ليصل إلى 10 آلاف ليرة في السوق الموازية.

في غالبية الأحيان كان الاقتراض يجري من السوق مباشرة، ولم يُجبر أحد سلامة على تمويل الخزينة كما يزعم


ورغم أن سلامة يقرّ بأن قيمة الخسائر في ميزانيته تبلغ 81 مليار دولار، إلا أنه يرفض اعتبار هذه الخسائر عائدة لأموال المودعين التي شجع المصارف على إيداعها لديه. لا يزال يعتبر أن «النظام قائم» وأن «أموال المودعين موجودة». تناقض هائل في مقابلة واحدة! أما عن شكاوى بالناس بشأن قصّ الشعر بحكم الواقع، فيردّ سلامة بأن «السوق هو من يقرر ذلك، والزبون. لا يوجد قانون يأخذ المال من الناس، الفرق حاسم. من المؤكد أن هناك أسعاراً مختلفة للدولار، لكن السعر الرسمي وكذلك السعر المفروض على الواردات وسعر السوق السوداء يختلف، لأننا أصبحنا اقتصاداً نقدياً. مع كل هذه الأحداث، هناك ضغط معين...». ما الذي يفترض أن يفهمه المودعون من كلام سلامة؟ هل السوق يقصّ ودائعهم وهو يتفرّج؟ أليس هو المسؤول عن سعر الصرف والسياسات النقدية التي خلقت أسعار صرف متعدّدة موثقة بتعاميم صادرة وموقعة منه وحده في ظل غياب المجلس المركزي؟ أليس هو المسؤول عن سلامة النظام المصرفي؟
لا يألو سلامة جهداً للمواربة. بل يلصق تهمة إنشاء صندوق لجمع عقارات الدولة واستخدامها كضمانة لقروض المركزي للدولة، بوزير المال غازي وزني، متناسياً أن هذا الاقتراح ورد في خطة المصارف وتبنّاه هو شخصياً.
كلام سلامة هذه المرّة، كما غيره سابقاً، لا ينفكّ يذكّرنا بأنه بريء وقدّيس، بينما الواقع أنه مجرّد تاجر أدوات مالية يمارس مهامّ كحاكم مصرف مركزي في بلد يتآكله الفساد.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا