بموازاة حرب العدو المجهري الذي لم يُعرف له وجه حتى اللحظة، يواصل «الأعداء» التّفه حرب الخارج الإقليمي والدولي على لبنان. الأعداء البائسون، وهم في الحقيقة والواقع، أقل من أن يُعتدّ بهم. وقيمتهم الفعلية، عند الجميع، تنحصر بوصفهم نفوساً مريضة، وأرواحاً مهزومة، وأبواقاً رخيصة. ويمكن أن يضاف إلى ما سبق قدراتهم المشهود لها في شحذ السكاكين وإشعال الغرائز وبثّ الفتن وزرع الفوضى وتعميمها. وما العروض المسعورة التي شهدها اللبنانيون بعد ثوان من انفجار المرفأ، وملأت (الأدق لطّخت) الشاشات، إلا نموذجاً معبراً عن هذه القدرات الشيطانية التي لا يردعها رادع... ولو انهار العالم.والأرجح، ربطاً بالوقائع المتزايدة، أن يشهد اللبنانيون في الأيام والأسابيع المقبلة ارتفاعاً في منسوب «الهجوم»، وتالياً الرقص على خراب المرفأ. فالحرب المعلنة التي تتوسّد انكشاف البلد المالي، وسقوطه الاقتصادي، وتبني عليه، ترى في اجتماع هذه الظروف معطوفاً عليها «فرصة» الكارثة التي ضربت المرفأ ومعها أجزاء من العاصمة، واحدة من الفرص الثمينة التي قد لا تتكرر للنيل من المقاومة وصورتها وصولاً إلى سلاحها الذي حرّر الأرض وأسّس لقوة ردع تقضّ مضاجع الكيان الصهيوني ورعاة استمراره في احتلال الأرض وتبديد أهلها سياسياً وثقافياً ومادياً.
الأبواق، ومعها الأقلام، التي أدمنت الارتزاق واحترفت الاستثمار في الدم والتجارة في العصبيات والغرائز، وملأت الفضاء العام زعيقاً وفحيحاً، تعيش اليوم ما يمكن تسميته «وهم القوّة»، خصوصاً بعدما اكتمل عقدها وتمّ. ومأساة وهم القوة هذا الذي جرى تجريبه سابقاً أن فشله المتكرر لم يترك التأثير المطلوب ولم يعلّم معتنقيه ومصدّقيهم بعد الحاجة إلى التواضع والإقرار بالمعادلات الفولاذية التي باتت عصية على التغيير. فالدفع المبكر بـ «بوق الحياد» الذي كان قد فرغ لتوّه من حرب حماية أهل المنظومة المسؤولة عن فقر اللبنانيين وجوعهم، ونجاحه (المؤقت!) في تأمين الحماية للمدعو رياض سلامة، بالتكافل والتضامن مع أقرانه من متزعمي الطوائف ولصوص المال العام، من شأنه أن يعظّم من وهْم القتلة المأجورين المتنكرين بالأثواب السياسية والإعلامية وشارات الـ«أن. جي. أوز.»، ويزيّن لهم آمالهم باستعادة الصدارة المهدّدة بالتراجع حتى لا نقول الزوال. وما «استئساد» المدعو إبراهيم كنعان ورفيقه المدعو سليم صفير ووقاحة هذا الأخير في الإصرار على ورقة جمعيته، مدعوماً بالأرقام التي وضعها الأول له، إلا ترجمة لهذا «النجاح» المجلّل بالعار الذي يحمل توقيع «الحيادي» الجديد وبصماته.
ولأن الحاجة أم الاختراع. كان الاختراع «الحيادي»، وكان الاستدعاء والتكليف ومن ثم الدفع، ولاحقاً الزجّ المباشر، بأمل رفد «الكتيبة» السياسية - الإعلامية المكلّفة باغتيال وعي الناس المرضوض أصلاً، وتسميم أدمغتهم وغسلها بألوان رديئة من الشعبوية الخالصة. وها هو صاحبنا اليوم، ومن بعد تقدّمه الإعلامي «المشهود» والمدروس لصفوف المهاجمين اليائسين، يتولى بالنيابة عن «المرجعية التاريخية» إياها، التي نصّبته وقبله أسلافه، محاولة سدّ الفراغ «التنظيري» لفريقه بأوراق صفراء محشوة بسقط المتاع الفكري والسياسي اللبنانوي الذي عرّته الوقائع وكشفت بهتانه. أما السبب في تكليفه بهذه المهمة دوناً عن غيره فيكمن في ضعف وعجز وفشل زملاء الكار من أصحاب الباع الشيحوي، أو منتسبيهم الجدد من ذوي الماضي «القومي» أو «اليساري» المزعوم وصدأ أدواتهم وتخلّفها.
خطوة الرفد هذه كشفت عن حقيقة المشهد الناقص الذي رسمته الدوائر الغربية إياها، وفضح عيوبه المكرّرة التي بلغت حدود نشر الملل. لكن اليوم، ومن بعد الإعلان عن رفع مستوى الحرب المعبّر عنه بتدافع الوقائع وآخرها الزجّ المباشر بهذا «المحايد» واستعجاله «الرقص» على إيقاع النغمة المشروخة القديمة - الجديدة، يمكن للقائمين على تكليفه الرهان على المزيد من عناصر الإثارة. وهو ما ظهرت أمس أول فصوله، بتجاسره المحسوب وتقدمه خطوة، بدعوته السافرة والمجنونة إلى دهم السلاح المقاوم! وهي دعوة أقل ما يقال فيها إنها مجرمة، وتلاقي وتعانق المطلب الأميركي - الإسرائيلي الأصلي، المرفوع منذ ما قبل عدوان العام ٢٠٠٦، وفي صدارة أهدافه. بل وتكشف عن المدى الدموي الذي يمكن لهذا الفريق الخائب ولمشغليه الإقليميين والدوليين أن يذهبوا إليه في سبيل إرضاء من تعهّد تناسل سلالاتهم السياسية والاقتصادية والثقافية أباً عن جدّ وحتى جدّ الجدّ.
العدو العاجز عن شنّ الحرب وجد أن فرصته الأمثل بالرهان على «خلاياه» لإشعال البلد


المهم أن السياق الناظم لكل هذا الذي يجري يهدف إلى المزيد من «لبننة» الحرب الأميركية - الإسرائيلية المعلنة على المنطقة. واللبننة هنا تعني، مبدئياً، أن العدو العاجز عن شنّ الحرب، نتيجة رعبه من تكرار نتيجة الفشل والهزيمة ذاتها في ما لو جرب وأعاد الكرّة، وجد أن فرصته الأمثل والأقل خطورة عليه تكمن بالرهان على «خلاياه» بإشعال البلد وإغراقه بالعجز والفوضى، وافتراضه أن هذا كفيل بإضعاف المقاومة وتشتيت تركيزها واستنزاف مقدراتها النوعية في حرب أهلية. وما تكرار محاولة هذا المأفون، السابق ذكره، من خلال بعض «الفلتات» المدروسة، تكرار الاقتراب من السلاح، الذي بات، للعدو قبل الصديق، ذا قيمة استراتيجية محسومة تهدّد الأسس التي قامت عليها سياسات الاستباحة الخارجية المستدامة وسهّلت احتلال فلسطين، ومن ثم الانتقال إلى التجرؤ عليه والمطالبة بدهمه، إلا العنوان اللبناني لهذه الحرب التي يراد للبلد أن يعيش أهوالها التي يعمل لها الأميركي ويتمناها الإسرائيلي.
يبدو أننا أمام طبعة جديدة من حكاية الأطفال المعروفة: «الراعي والذئب»، تتكامل فيه أدوار الاثنين، إنما بكلفة عالية ربما تجاوزت خيال الأمثولة التي أرادتها القصة الأصلية!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا