اعتذر رئيس محكمة الجنايات في بيروت القاضي طارق بيطار عن عدم قبول تكليفه محققاً عدلياً في جريمة تفجير مرفأ بيروت. لم يُعلن السبب، إلا أنّ ما تداوله قضاة يتحدث عن سببين؛ الأوّل شخصي لعدم رغبة عائلته في وضعه في دائرة النار الإعلامية والسياسية والشعبية. والثاني إجرائي، إذ يرفض القاضي أن يسير في ملف سيُلزم فيه بتطبيق القانون بدلاً من تحقيق العدالة لعائلات الضحايا، ولا سيما أنّ أيّ عدالة لن تكون ممكنة إلا إذا كانت هناك محاسبة سياسية تبدأ من رأس الهرم لتحاكم الرؤساء والوزراء، على أن تطال قادة الأجهزة الأمنية المسؤولة، والقضاة الذين يثبت تقصيرهم، والمسؤولين المدنيين والعسكريين عن المرفأ الذين كانوا يعلمون ولديهم القدرة والصلاحية على الحؤول دون وقوع ما حصل، لكنهم تقاعسوا استهتاراً. لكل هذا، اختار القاضي الاعتذار. لم يشأ أن يكون شاهد زور ينتهي تحقيقه بخلاصة مفادها أنّ ما حصل «إهمالٌ وظيفي» و«تقصير من دون وجود نيّة قصدية» تسببت في ما حصل، لأن النصوص القانونية، وفي حال لم يكن هناك من مشتبه فيه بإضرام النيران عمداً، تحصر القضية بالتقصير والمخالفات. وبناءً على ذلك، رأى القاضي بيطار أنه سيكون عاجزاً عن إحقاق العدالة، فاعتذر لتقترح وزيرة العدل اسم القاضي فادي صوّان على مجلس القضاء الأعلى. وقبلها جرى التداول باسم قاضٍ من الشمال، إلا أنّ أحد أعضاء المجلس تحدث عن شرطٍ بأنّ يكون المحقق العدلي مسيحياً. وهنا تُستحضر «الملاحظات الثورية» لوزيرة العدل على التشكيلات القضائية التي لم تُبصر النور، عندما تمنّت ضرورة تجاوز التوزيع المذهبي والطائفي للمواقع القضائية وكسر ما سمّته «الحلقة المقفلة» التي منحت مواقع لهذه الطائفة أو المذهب، بغية الوصول إلى مرحلة يخرج القضاء عبرها من هذه الشرنقة إلى رحاب الكفاءة والاختصاص. غير أنّها نفسها التزمت بالشرط الطائفي لتطرح أسماء ثلاثة قضاة، آخذة في الاعتبار أن يكونوا مسيحيين، بدلاً من أن تكون أولويتها نزاهة القاضي وكفاءته وشجاعته. هكذا أُسقِط على العدلية عُرفٌ جديد بأن يكون المحقق العدلي من طائفة أكثرية الضحايا. ومن غير المعلوم من أحصى الضحايا وحدّد هوياتهم الطائفية، أم أنّه اعتمد هوية طائفية للمنطقة المنكوبة، مع العلم بأنّ المحقق العدلي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري لم يكن مسلماً، بل كان الأول ميشال بو عرّاج والثاني الياس عيد. لماذا لم تُترك المحسوبية جانباً، ليكون المعيار الأول كفاءة القاضي وأمانته على دماء الضحايا؟
طالما أنه لا آلية لملاحقة الرؤساء والوزراء، تكون الكلمة الفصل للمجلس العدلي

في المحصّلة، وقعت القرعة على القاضي صوّان. وهو اسمٌ كان معظم أعضاء المجلس يتمنون اقتراحه لقربه منهم، مع العلم بأنّ هذا القاضي، بحسب عارفيه من القضاة والضباط، دقيقٌ ومهني ويعرف القانون جيّداً. ورغم أنّه كان قديماً مقرّباً من حزب الكتائب، إلا أنّه قرر منذ زمن الابتعاد عن السياسة. وهو اليوم يدرّس في الجامعة ويُتابع ملفاته القضائية بصمت. ورغم حسناته تلك، يؤخذ عليه خشيته من المواجهة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يحضر شاهد؛ فقد أُحيل ملف حادثة قبرشمون عليه يوم كان قاضي التحقيق العسكري الأول بالإنابة، إلا أنّ الوزير السابق سليم جريصاتي اتّصل به طالباً إليه إحالة الملف على القاضي مارسيل باسيل. يومها نفّذ القاضي صوّان ما طُلِب منه ولم يعترض، لكنه خرج ليُخبر زملاءه كيف انتُزع الملف منه، وطُلِب القاضي الذي يجب أن يحال إليه الملف بالاسم! أمام هذا الواقع، هل سيشدّ القاضي صوّان رُكبتيه بوجود مجهر الرأي العام والإعلام وحجم النكبة؟
ولم يكد صوّان يتسلّم ملف تفجير مرفأ بيروت حتى أُلغيت الجلسة المقررة للاستماع إلى الوزراء الذين تسلموا حقيبة الأشغال منذ العام 2013. الذريعة كانت أنّ الملف بات في يد المحقق العدلي حيث يُصبح لزاماً أن تُكفّ يد النيابة العامة التمييزية المشرفة على التحقيق. غير أنّ نقاشاً انفتح في أروقة قصر العدل. فقد اعتبر قضاة أنّ المحقق العدلي لن يتمكن من استدعاء الرؤساء والوزراء الحاليين. كما قالوا إنّه لن يتمكن المحقق العدلي من التحقيق مع رؤساء ونواب ووزراء سابقين، سوى بصفتهم شهوداً، على اعتبار أنّه يُسائلهم عن فعل حصل أثناء توليهم لوظيفتهم المشمولة بالحصانة، معتبرين أنّ هؤلاء سيُحالون على المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في حال كانوا مشتبهاً فيهم. وبالتالي، سيعود الملف إلى النقطة الصفر ليقف أمام حائط مسدود. وترى المصادر أنه بناءً على الإفادات التي سيستمع إليها المحقق العدلي، إذا وجد أن هناك وزراء أو نواب أو رؤساء مذنبين، فسيحيلهم على مجلس النواب الذي يتحوّل إلى مدّعٍ عام ضدّهم. غير أنّ مراجع قضائية أكّدت لـ «الأخبار» أنّ ذلك رهن بالمحقق العدلي، على اعتبار أنّ محكمة الرؤساء والوزراء غير موجودة. وعليه، فإنّ المجلس العدلي الذي يُعدّ أعلى محكمة جزائية استثنائية بإمكانه الاستماع إلى الرؤساء والوزراء والنواب كشهود وكمتّهمين أيضاً. وتؤكد المصادر القضائية أنّ لا وجود لتنازع صلاحية بسبب عدم وجود محكمة الرؤساء والوزراء. وبالتالي، فإنّ اليد الطولى ستكون للمحقق العدلي إذا ما ارتأى الإمساك بزمام الأمر، لأن ترتيبات الأحوال العادية ساقطة بحكم الحدث الاستثنائي. وعليه، يدخل استثناء على كل الاستثناءات. وطالما أنه لا آلية لملاحقة الرؤساء والوزراء، تكون الكلمة الفصل للمجلس العدلي، إذا كانت النية إحقاق الحق وتطبيق العدالة.



محاولة تلاعب أو «ديبّو» وزارة العدل؟
وصل معظم الوثائق والمراسلات التي طلبها القضاء لاستكمال التحقيق في تفجير مرفأ بيروت من مديرية الجمارك وهيئة إدارة المرفأ ووزارتي الأشغال والمالية، إلا أن المراسلات الموجودة قي وزارة العدل لم تصل بعد. أما الذريعة المقدمة فهي عدم وجود مكننة تسمح بسحب هذه الوثائق بسرعة، بل أرشيفٌ يدوي يُفتّش فيه الموظف في «ديبّو» «العدلية». ورغم أنّ وزارة العدل هي الأقرب جغرافياً من باقي الوزارات، يُخشى أن يكون سبب التأخير محاولة تلاعب لإخفاء بعض الوثائق المُرسلة من أجهزة أمنية وإدارية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا