حين وصل إلى مطار «رفيق الحريري الدولي»، قال رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون إنّه يبعث «برسالة دعم وصداقة إلى الشعب اللبناني». لا شكّ أنّ دمار مرفأ بيروت وأحياء العاصمة، نكبة إنسانية كبيرة، دفعت بعددٍ كبير من الدول الإقليمية والعربية والغربية لإرسال مساعداتها، مُتخطية الحصار الأميركي المفروض على البلد. ولكن «التضامن الأُممي» ليس الدافع الوحيد لشحذ الهِمم الفرنسية، المُنتمية إلى اتّحاد أوروبي تعود دوله أكثر فأكثر إلى تغليب الخيارات «القومية الداخلية» على سياساتها. في مقالة نشرتها «الأخبار» في عدد اليوم الخميس، تمّ تناول أهداف زيارة ماكرون الخاطفة إلى بيروت، ومنها أنّ «التهديد الذي تمثّله هذه التطورات بالنسبة إلى استقرار لبنان الداخلي وما قد يترتّب عليه من تبعات على الأمن الأوروبي، قد يكونان بين العوامل التي «أيقظت» الشعور بـ«المسؤولية التاريخية» لدى المسؤولين الفرنسيين تجاهه، والذي ميّز، أحياناً، مقاربتهم لشؤونه عن تلك الأميركية». زيارةٌ سياسية، ولو أنّها غُلّفت بعناوين إنسانية. فسريعاً، كشف الرئيس الفرنسي عن خلفيات زيارته، والحراك الأوروبي الذي أتى يفتتحه: «لبنان ليس وحيداً، لكن هذه مُناسبة لحوار صريح مع المسؤولين اللبنانيين. الأزمة عميقة أبعد من الانفجار». الرئيس ميشال عون كان في استقبال الضيف الأجنبي في المطار، حيث شدّد ماكرون على ضرورة «إعطاء الأولوية حالياً لمساعدة لبنان بدون شروط... للشعب اللبناني. سنُساعد في الأيام المقبلة في تنظيم دعم إضافي على المستوى الفرنسي والأوروبي. أودّ تنظيم تعاون أوروبي وتعاون دولي أوسع»، مُعتبراً أنّ لبنان «سيواصل الغرق في حال لم تُنفّذ إصلاحات يضعها المجتمع الدولي شرطاً لحصول لبنان على دعم يُخرجه من دوّامة الانهيار الاقتصادي».
بعد هذه «الافتتاحية»، انتقل الرئيسان اللبناني والفرنسي إلى مرفأ بيروت لمعاينة مكان الانفجار. في تلك الأرض المُدمّرة، أبلغ ضابط من فريق الإنقاذ الفرنسي، الكولونيل فنسنان تيسييه بأنّه «نعتقد أنّه لا يزال هناك أمل بالعثور على ضحايا ناجين. الفريق يعمل بحثاً عن سبعة أو ثمانية أشخاص يعملون في المرفأ مفقودين عالقين في قاعة تهدّمت جرّاء الانفجار».
من خارج برنامج الزيارة، قرّر ماكرون الانتقال إلى حيّ الجميزة، الذي تضرّر بشكل ضخم، ولا تزال الأعمال المدنية لإزالة الرُكام وإنقاذ السكّان مُستمرة. مُستعيداً «أمجاد جدوده»، تمشّى ماكرون في شوارع حملت أسماء تُخلّد ذكرى الانتداب الفرنسي. نزع كمّامته مُعانقاً الأهالي ومُستمعاً إلى صرخاتهم المُوجّهة ضدّ ميشال عون والعهد، والمُطالبة بـ«الثورة». خطوته لاقت حفاوةً، فـ«أهميتها» أنّها تأتي في ظلّ غياب كلّي للسياسيين اللبنانيين عن تفقّد أحوال المُتضرّرين، بما يُعزّز عوامل غياب الثقة والتباعد بين أركان الدولة والشعب. في حين أنّ ماكرون كان يتنقّل سيراً على الأقدام، بغير تكلّف، يُسلّم على الناس ويُخبرهم بأنّه في لبنان «لمساندة الشعب وليس لدعم الطبقة السياسية». وكانت «فرصة» إضافية ليُعيد ماكرون التذكير بهدف زيارته: «نحن بحاجة لتغيير النظام وإحداث تغيير سياسي ووقف الفساد». هو نفسه النظام الذي رعت فرنسا تأسيسه قبل مئة عام، وأعادت تجديد بيعته في التسعينات، ثمّ ثبّتت أرجله من خلال المؤتمرات الاقتراضية التي عقدتها منذ 2001 مع «باريس 1». كانت السلطات الفرنسية، ومن خلفها الأوروبية، تُدرك أنّ النموذج الاقتصادي الذي تُجرى تغذيته عبر سياسة القروض والودائع الخارجية مُدمّر للشعب، ولم يؤدِّ إلى بناء اقتصاد مُنتج، ولم تكن له انعكاسات إيجابية على الاقتصاد الكلّي. على الرغم من ذلك، ومن عدم إدخال «الإصلاحات المطلوبة»، استمرّت فرنسا في رعاية النموذج الريعي وأوليائه وكلّ طبقة المصالح المُرتبطة به، راعيةً مؤتمر «باريس 4» المعروف بـ«سيدر». توقعت فرنسا أن تتمكّن من انتزاع شروط سياسية من خلف «مساعداتها الاقتصادية»، فوافقت على منح «النظام» إبرة أوكسيجين قبل الانتخابات النيابية. اليوم، يبدو أنّه لم يعد هذا النظام مُناسباً للمصالح الدولية، فقرّرت فرنسا أن تفتتح السباق الدولي لتُثبّت موطئ قدمها لها فيه، فالحفاظ على لبنان «مستقر» في مقابل خيار الولايات المتحدة الأميركية بفرض الفوضى، من المصالح الفرنسية الكُبرى. في كلامه مع اللبنانيين، استخدم ماكرون «حجّة منطقية» لتعزيز تهميش المؤسّسات الرسمية، مُستفيداً من أنّ قسماً كبيراً من اللبنانيين أيضاً لا يثق بإدارته، فقال إنّه «لا ثقة لنا بأنّ المساعدات المالية لن يُصيبها الفساد». إنطلاقاً من هنا، توزيع المساعدات سيتم بإشراف «الأمم المتحدة» وحصراً عبر المنظّمات الدولية والمنظّمات غير الحكومية، «وأن تُحوّل مُباشرةً إلى الشعب اللبناني».
فرنسا التي فقدت مواطنين في انفجار 4 آب، تُريد تنظيم مساعدات دولية للبنان. هذا الملفّ والدعوة إلى تغيير سياسي، ناقشه ماكرون خلال اجتماعه في قصر بعبدا مع الرئيس ميشال عون ورئيس مجلس الوزراء حسّان دياب ورئيس مجلس النواب نبيه برّي.
وأعلن بعد اللقاء أهداف زيارته:
- نقل تضامن الشعب الفرنسي مع الشعب اللبناني بعد انفجار 4 آب. التحقيقات يجب أن تحصل بكلّ شفافية لمعرفة ما حصل وتسبّب بالانفجار في بيروت.
- تقديم الدعم من الشعب الفرنسي إلى اللبنانيين، وظهر عبر 3 طائرات وصلت إلى لبنان تحمل معدّات ولوازم طبية، وهناك طائرة أخرى ستصل في الساعات المقبلة. سنُقدّم العلاج لنحو 500 جريح، وسيتمّ استكمال المساعدات عبر إرسال معدّات طبية وأغذية وإعادة البناء بأسرع وقت مُمكن.
- تنظيم الدعم الدولي سريعاً.
وقال ماكرون: «لمست الغضب في الشوارع. لبنان يُعاني من أزمة سياسية واقتصادية ومالية مُستمرة منذ سنوات عدّة، تحدّثنا مع الرئيس عون ودياب وبرّي، بكل صراحة، بأنّه يجب القيام بمبادرات سياسية قوية لفرض الشفافية وإنهاء الفساد، والقيام بإصلاحات في قطاع الكهرباء ومعالجة انقطاع الكهرباء، ومعالجة عمل القطاع المصرفي وشفافية المصرف المركزي. المسألة تعود إلى الرؤساء والشعب الذي يتمتع بالسيادة لتطبيق هذه الخيارات وهي يجب أن تُمثّل عقداً سياسياً جديداً».