لم يكفِ لبنان أنه فوقَ بركان مالي - اقتصادي، حتّى هزّه الاكتشاف الدموي أن العاصمة نائمة بين ألغام بقدرات «نووية»! زلزالٌ أمنيّ لم يتخيّله أحد بهذا الحجم، رُغم التجارب المرّة التي راكمتها المدينة. زلزال أصاب أيضاً المشهد السياسي برمّته، ويُنذِر بنقل البلاد إلى مرحلة جديدة من الاضطرابات، شبيهة بتلكَ التي تلَت اغتيال الرئيس رفيق الحريري.انتظرها البعض من لاهاي، حيث كانَت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ستُصدِر حُكمها في قضية الاغتيال في ٧ آب، ليكون هذا التاريخ هو العبور بالبلاد إلى ما هو أدهى، تصفيةً لحسابات سياسية مع حزب الله والعهد والحكومة، فأتت من المرفأ في ٤ آب، الذي وجد فيه أطراف سياسيون حبْلاً أقوى لاقتياد اللبنانيين إلى متاريسهم من جديد.
الفرق بينَ التاريخين، أن ٧ آب لم يوحّد ما يُسمى ١٤ آذار، إذ فضّلت قواه الأساسية (سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع) عدم الاستثمار في حكم المحكمة، بينما ضبطَت «مُتفرقات» ساعتها على توقيت لاهاي، وبدأ الإعداد للتصعيد.
ثمة من خرَج ليزايد على الحريري نفسه، كالرئيس فؤاد السنيورة الذي روّج في مجالسه وفي تصريحاته الإعلامية أن «المحكمة لا تخصّ آل الحريري وحدهم»، وكأنها توطئة لكلام من عيار ثقيل كانَ سيُطلق فيما لو قرّر الحريري اختيار لهجة هادئة تعليقاً على الحكم. ومثل السنيورة، بدأت شخصيات أخرى في ١٤ آذار الإعداد لمعركة ضد حكومة الرئيس حسان دياب، المطلوب منها، بحسب ما نُقل عن هؤلاء، «اتخاذ موقف من الحكم ضد حزب الله للعودة إلى الشرعية الدولية»، أو «سيُصار إلى عزل الحكومة إقليمياً ودولياً بالكامل، ولن تحصل على دولار واحِد من المساعدات». وبالتزامن، كانت المعلومات تتحدث عن مجموعات تابعة لبهاء الحريري وأشرف ريفي جاهزة للتحرك في الشارع وقطع الطرقات وزيادة الخطاب المذهبي.

(هيثم الموسوي)

أما ٤ آب فيُمكن القول إنه نقطة الانطلاق في اتجاه الاصطدام الكبير. تقاطعت المعلومات والخطابات تعليقاً على الحدث عندَ أن البلاد ذاهبة مجدداً إلى الانقسام العمودي بينَ فريقين. دفعة واحدة استعيدت الخنادق الأم منذ عام ٢٠٠٥، وارتسمَت ملامحها على أكثر من محوَر.
- أولاً، حملة تقودها وسائل إعلام تابعة للمحور الخليجي - الأميركي حاولت اللعب على التوترات الأهلية، وبثت تقارير عن ضربة إسرائيلية استهدفت سلاحاً لحزب الله في المرفأ، لتأليب الرأي العام عليه، على اعتبار أنه المُغامِر بحياة الناس.
- ثانياً، مُسارعة شخصيات في فريق ١٤ آذار إلى إحياء الخطاب الآذاري، بالمطالبة بإعلان لبنان دولة فاشلة ووضعه تحتَ الوصاية الدولية والإتيان بلجنة تحقيق دولية لكشف ملابسات الانفجار.
- ثالثاً، التصويب الفوري باتجاه العهد ورئيسي الجمهورية والحكومة وتحميلهما مسؤولية الانفجار، ومطالبتهما بالاستقالة.
- رابعاً، كلام الحريري من وسط بيروت، أثناء تفقده الأضرار. على عكس كلامه الهادئ عن المحكمة وطلبه التريث بانتظار صدور الحكم، عادَ مُسرعاً إلى مكانه الطبيعي في قافلة الآذاريين. استغلّ الحدث، مُحمّلاً «العهد الحاكم مسؤولية تداعيات الانفجار الهائل الذي وقع في المرفأ»، متجاهلاً أن المواد المتفجرة كانت موجودة أيضاً خلال حكومته.
انتظرها البعض من «لاهاي» فأتت من المرفأ


- خامساً، بمعزل عن عدم الثقة بالأجهزة الأمنية والقضائية وتحمّلها جزء من المسؤولية، بدأ الحديث عن تحقيقات ستتولاها جهات خارجية، وقد دعا الحريري إلى التعاون معها، على غرار ما حدث في ١٤ شباط ٢٠٠٥.
- استقالة النائب مروان حمادة، أحد أبرز رموز «النظام»، تلتها معلومات عن نية نواب آخرين الاستقالة، من بينهم نواب كتلة المستقبل، من دون أن تتأكد صحتها، وبقيت قيد التداول طيلة اليوم الماضي، مذكّرة بالاستقالات التي تقدم بها وزراء في حكومة الرئيس عمر كرامي فوراً بعد اغتيال الحريري.
جنبلاط فضّل انتظار التحقيقات، فيما تعقد القوات اللبنانية اجتماعاً لها اليوم لإعلان بيانها الرسمي. وبانتظار حسم الطرفين موقفيهما وتبيان شكل المعركة التي سيقودانها، إلى جانب الحريري، يبقى السؤال: ماذا بعد ٤ آب ٢٠٢٠؟ سؤال طُرح منذ خمسة عشر عاماً بعد اغتيال الحريري الأب، ويطرح اليوم بعد اغتيال واجهة بيروت ومعالمهما. فهل يتوسّع خطاب الحريري ليطال حزب الله، وينضم اليه كلّ من جنبلاط وجعجع؟ هل يكون الحريري تحت الضغط السعودي لتوظيف ما جرى في المرفأ ضد حزب الله، خاصة أنه كانَ تحت اختبار المحكمة، وهو ما نقلته أوساط سياسية بارزة عن أن «الحريري تحت المجهر السعودي، وأن سفيرها في لبنان يروّج لفكرة أن قرار المحكمة سيكون الاختبار الأخير للحريري؛ فإذا سارَ وفقَ ما تريده المملكة، فسيُفتَح ذلِك الباب أمامه من جديد إلى الرياض، أما في حال لم يركَب الموجة، فسيكون قد قطع آخر شعرة مع السعوديين، وتبدأ خطوة إطاحته على الساحة السنيّة من الداخِل والخارج».