يركض الشاب الذي تغطّيه الدماء بالقرب من بيت الكتائب في الصيفي باتجاه الجميزة. صديقته التي صبغها الأحمر أيضاً تجهد لإمساك يده. على الرصيف الموازي لبيت الكتائب سيارتان انقلبتا رأساً على عقب، وسيارات كثيرة مبعثرة وكأنّ طفلاً شقياً لها بها وتركها وسط الطريق. الزجاج في كل مكان. الصراخ أيضاً. صفارات الإنذار تدوّي باستمرار، قبل أن تصبح غير مسموعة وكأنها تماهت مع الضجيج الذي لفّ وسط العاصمة. بالقرب من مبنى جريدة «النهار» الذي تحطّمت واجهته بالكامل، كانت تختبئ خلف سيارة بيضاء. تنزف وتبكي وتلطم نفسها، وبالكاد تتمكن من الكلام. اسمها نينا. قالت إنها كانت ورفيقتيها، في مبنى مواجه للمرفأ مباشرة لحظة حصول الانفجار. تلك ومضات لا تلبث أن تنطفئ من حدّة الصدمة. سرعان ما تسأل أين هي وماذا حصل وما الذي أتى بها إلى هنا؟ تطلب ماء. يبحث أحد الشبان في سيارة متوقفة عرضياً في وسط الطريق عن عبوة مياه ليكتشف أن سائقتها فارقت الحياة. الكل يركض، فيما تحكم قبضتها على يد محدثها طالبة البقاء قربها. تقترب سيارة تابعة لـ«الإسعاف الإسلامي»، فيقطع الطريق أمامها أحد الشبان طالباً نقل الفتاة التي تضررت رجلها بشدة. يحملها أربعة شبان إلى السيارة. إلى أي مستشفى ستنقلونها؟ الحكومي... من حسن الحظ أن «نينا» لن تتذكر على الأرجح ما حصل.
■ ■ ■

على بعد أمتار مما كان «المرفأ »، انتشار عسكري ونيران لم تنطفئ. القاعدة العسكرية المحاذية مدمّرة بالكامل. بدا الجسر المقابل، أشبه بباحة سينما خارجية، يقصدها الناس لمشاهدة فيلم الليلة. الركام والزجاج يفترشان الزفت. يبدو المرفأ مجرد باحة لجمع الخردة، ومئات السيارات المبعثرة في وسط بيروت وضواحيها لم تعد صالحة سوى كحديد للكسر.
■ ■ ■

يكنس أصحاب المحال التجارية زجاج شبابيكهم وأبوابهم عن الطرقات. لا يدري أحد بما حصل فعلاً. المسار من «الرينغ» إلى بيت الكتائب معبّد بالزجاج والأشجار المقتلعة من مكانها. يسير أحد الشبان عاري الصدر. يحاكي نفسه. كان جالساً في مكتبه، فجأة، اهتزّ المبنى، وبعد ثوان دوّى الانفجار وأسقطه أرضاً. «في قصف إسرائيلي صار هون ما حدا يقنعني غير هيك»، يقول أحد من أتوا من الطيونة مستطلعاً. لا وقت لقاطني الجميزة وأصحاب المطاعم والملاهي في الجميزة ومار مخايل لإطلاق تحليلات. يلملمون جنى أعمارهم. لم يكن يكفي هؤلاء مصيبة كورونا والوضع الاقتصادي والإقفال خمسة أيام. أتى ما يسوّي أعمالهم بالأرض. معظمهم، على الأغلب، لن يعيد فتح أبوابه أبداً، فليعلن وزير الداخلية الإقفال التام بكل راحة هذه المرة. شوارع الجميزة الداخلية، ساحة حرب حقيقية. ثمة من افترش ركام منزله وجلس. الطرقات مقطوعة بالألواح الحديدية والزجاج المحطم. في الخلفية مشادات متنقلة، دخان، صراخ، بكاء، غضب، حطام، ظلمة ودماء لم تجف بعد. بيروت مدينة منكوبة.