في اتصال جرى أخيراً بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أعقب تقييم الدوائر الفرنسية للوضع اللبناني وكلام ماكرون عن يأسه من لبنان واحتمالات الإصلاح فيه وامتعاضه من أداء العهد وكلّ السياسيين والحكومات المتعاقبة، دار كلام واضح وصريح بين الطرفين. العبرة ليست في الاتصال وما دار فيه فحسب، بل كونه أتى بعد حوار فرنسي أميركي حول لبنان، وتبعه تحرك دبلوماسي سعودي في بيروت.في ظل تفاقم التطورات السلبية في لبنان، وفي موازاة الحوار مع صندوق النقد الدولي بدأت تصل إلى باريس معلومات موسعة بشأن حقيقة الأوضاع في بيروت وملاحظات أوسع وأكثر تمايزاً في خلفياتها وحقائقها عمّا تنقله الدوائر الدبلوماسية الفرنسية. ورغم أن ماكرون أعرب عن امتعاضه من أداء المسؤولين اللبنانيين، إلا أن إدارته سعت في مبادرة استطلاعية إلى جسّ نبض واشنطن حول ما يمكن القيام به، ومدى استعدادها للتحرك لإنقاذ لبنان بعدما تصاعدت حدة العقوبات الأميركية على حزب الله، ومدى تأثير الانهيار المالي والاقتصادي على الشعب اللبناني كله. جاء الرد الأميركي ليعكس تجاهلاً أميركياً لأي تدخل للإنقاذ بناءً على قاعدة «أن واشنطن ليست مستعدة لمواجهة أحد أو التدخل لإنقاذ أحد. والعقوبات الأميركية قرار قديم يجري تنفيذه وفق قواعد معمول بها أميركياً، وسيستمر العمل بها وتخص حزب الله ومن يساعده. وإذا كانت القوى السياسية واللبنانيون راضين بهذا الوضع ويحتضنون الحزب فهذا شأنهم وليتحملوا، وفق ذلك، ارتداد العقوبات عليهم جميعاً، لأن واشنطن لن تتراجع عنها».
لم يجد الموقف الأميركي صدى لدى الفرنسيين الذين كانوا يراهنون على احتمال تغييره، لأن العقوبات لا تؤثر على حزب الله بقدر ما تترك انعكاسات سلبية جداً على جميع اللبنانيين، وأن لبنان يشارف على مواجهة أسوأ الكوارث، إن لم تتوفر مبادرة سريعة لإنقاذه. لكن واشنطن بقيت على موقفها، وإدارة دونالد ترامب متخلية تماماً عن خيار التدخل لوقف الانهيار اللبناني.
حاولت باريس الاستعاضة عن التدخل الأميركي، بمفاتحة الرياض، مع علمها المسبق بأنها أقرب إلى موقف إدارة ترامب. علماً بأن فرنسا والسعودية تعيشان منذ أكثر من سنتين اختلافاً في وجهات النظر حيال التعامل مع أزمة لبنان، منذ استقالة الرئيس سعد الحريري من الرياض، وصولاً إلى مقاطعة السعودية اللافتة لمؤتمر باريس للدول المانحة لدعم لبنان الذي عُقد في كانون الأول الماضي، رغم أن التقاطع الأساسي بينهما كان مؤتمر سيدر. وهذه المقاطعة كانت الإشارة الأكثر تعبيراً عن تعارض النظرة إلى كيفية مساعدة لبنان، ولا سيما أن فرنسا عوّلت على المساهمة السعودية المالية.
باريس تريد من لبنان القيام بما يضمن كسب الوقت، في ظل تعذّر الحل الدولي


راهنت باريس أخيراً على دور سعودي، كون الرياض قادرة على القيام بحركة سياسية سريعة ومبادرة متحرّكة ودعم مالي مباشر في هذه المرحلة التي يحتاج فيها لبنان إلى مساعدة فورية، وهو أمر لا يمكن أن تقوم به بسرعة سوى الرياض. سمع ماكرون من ولي العهد السعودي كلاماً غير مشجّع، فالسعودية عاتبة على إدارة الرئيس الفرنسي منذ استقالة الحريري ووقوفها موقفاً معارضاً لها ومساهماً في عودة الحريري إلى الحكومة التي ترى الرياض أنها ضاعفت نفوذ الحزب، كذلك ذهبت بعيداً في انحيازها إلى جانب العهد وضمناً حزب الله، ما ساعد على تعزيز دوره وإدارته للوضع اللبناني. مع الأخذ في الاعتبار أن أجواء السفير الفرنسي في لبنان برونو فوشيه تنحاز إلى وجهة النظر التي ساهمت في تعميق فجوة الاختلافات بين الرياض وباريس حيال لبنان والعهد وحزب الله.
رغم تباين وجهات النظر وعدم حماسها، وعدت السعودية باستطلاع آراء في بيروت، وهذا يعني مجرد إشارة إيجابية لا أكثر ولا أقل، عبّرت عنها حركة السفير السعودي وليد البخاري الأخيرة. وهذه الحركة لتكوين فكرة وافية مالية وسياسية، لا تزال حتى الآن محصورة بفريق واحد عبر استقبالات لمن هم خارج أركان السلطة. وهي محاولة استكشاف، ليست مرتبطة بمبادرات أو بودائع مالية. ويخطئ من يعتقد أن مقاطعة قوى سياسية لاجتماع بعبدا الذي دعا إليه رئيس الجمهورية ميشال عون هي تتماشى مع رغبة الرياض، فالأخيرة تحمّل الأفرقاء المعترضين، كالحريري، والقوات اللبنانية أيضاً مسؤولية المشاركة في اختيار العهد والمجيء بحكومات مشتركة مع حزب الله وتوسيع قاعدة العهد وحمايته ما سمح أيضاً بتوسيع نفوذ الحزب.
وقد خلصت نتائج جولة الاستطلاع الإقليمية والدولية عبر باريس، الى الآتي: لا تزال الرياض وواشنطن على الموقف نفسه من حزب الله ولبنان مهما بلغت درجة الانهيار فيه. فيما تحاول فرنسا بعد تقييم أداء دبلوماسي لإدارة الملف اللبناني في دفع لبنان الى تحسين أدائه على كلّ المستويات بما يضمن على الأقل كسب الوقت ليس أكثر، ما دام الحل الدولي لا يزال متعذّراً.