أعاد رئيس الحكومة حسان دياب وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة تطبيع العلاقة في ما بينهما. ليست مصالحة، لأن كلا الرجلين في المواجهة المباشرة التي خاضاها، أراد كل منهما أن يقول للآخر بأنه هو الذي يحكم. الأول وصف الثاني بـ«مريب»، صفة كافية كي تخرجه من منصبه عندما يُوحى بأن دوره يخرّب النظام والعملة الوطنية. أما الثاني، فأدار ظهره للأول بقوله بأن لا مبرر للتنسيق معه، كأن يعني أنه حاكم دولة الحاكمية وليس جزءاً من الدولة اللبنانية. رفعا سقف المواجهة المباشرة ثم بالواسطة، ثم جلسا معاً الأربعاء الفائت، كي يخلصا إلى تكريس سلطتَي الرئيس في مكان، والحاكم في مكان: يتطبّعان على ما هما عليه، أو يتصالحان، أو يتساكنان؟وشى اجتماعهما مساء الأربعاء بملاحظتين:
أولى، بعدما كشفا اتفاقهما على تدخّل مصرف لبنان لحماية الليرة ووقف ارتفاع الدولار الأميركي ودعم استيراد السلع الحيوية، دخلا في مرحلة جديدة قد لا تشبه بالضرورة ما جرى بينهما في الأسابيع المنصرمة، من غير أن تمحوه. فقدت الحملات السياسية والتحقيقات القضائية جدواها، وقد لا تعود ثمة حاجة إليهما لأن الاثنين باقيان معاً حتى إشعار آخر.
يعكس ذلك واقعاً قد لا يكون المرة الأولى، حينما يبسط حاكم لمصرف لبنان نفوذاً أقوى من السلطات العامة. غير أنها المرة الأولى فعلاً الأكثر قوة وفاعلية وتأكيداً أن الحاكم ــ وإن على رأس سلطة نقدية نظّمتها القوانين ومنحتها حصانة منيعة ولا تشبه السلطات الدستورية ــ يسعه أن يكون في منزلة رئيس. سبق للحاكم الراحل الدكتور إدمون نعيم إبان حقبة الحكومتين عامي 1988 و1989 أن عصى على رئيسيهما آنذاك ميشال عون وسليم الحص، وكلاهما قال بأنه الرئيس الشرعي والدستوري للحكومة. لم يستجب طلب أحدهما ضد الآخر أو تأليبه عليه، وساوى ما بينهما طوال 13 شهراً، قبل الوصول إلى اتفاق الطائف ونشوء شرعية جديدة. مدّهما بالمال، وأبقى مصرف لبنان في منأى عن صراعاتهما رغم وجود مقره في منطقة حكومة الحص. على نحو مشابه، يضطلع الحاكم الحالي بالدور نفسه حيال سلطة دستورية واحدة هي حكومة دياب يعدّها خصماً له، مستفيداً من انقسام الطبقة السياسية عليه بين متمسّك به ومتحمّس لإقالته. فإذا بالطبقة السياسية أقوى من آليات النظام وماكنته.
لا مغالاة في القول بأنها المرة الأولى في تجربة سلامة بالذات، أن يعثر على حيثية سياسية تحميه كالتي يختبرها اليوم، وتتحول إلى حجم غير قابل للابتلاع أو الاستيعاب. ما بين عامي 1993 و2005، في ظل الرئيس رفيق الحريري، لم يكن سوى أحد رجاله المخلصين الطائعين يستجيب لسياسته الاقتصادية والمالية ويبشّر بها، ويروّج لمضامينها السياسية حتى، ومنها إغراق البلاد في الديون موقتاً. في مرحلة ما بعد اغتياله إلى اليوم، أضحى الرجل أقرب ما يكون إلى الثابتة الوحيدة التي لا تدور من دونها ماكنة الاقتصاد والمال في لبنان. اختلف مع الرئيسين فؤاد السنيورة وسعد الحريري، وارثي الحريري الأب، وتصالح معهما من غير أن يفكرا في التخلي عنه رغم مقدرتهما. الآن تغلغل أكثر في بطون رجالات الطبقة السياسية وأطعمهم وغذّاهم، فلم يعد في وسعهم التخلي عنه. هو اليوم السلطة الموازية للسلطة الأم لا تحتها.
ليس سراً أن رئيسَي الجمهورية والحكومة أسرّا أكثر من مرة أمام زوارهما، أن من المتعذّر عليهما إخراجه من منصبه، مع أنهما يرغبان في التخلص منه. لديهما دراسة قانونية يتيح مضمونها إقالته، عملاً بالفقرتين الثانية والثالثة في المادة 19 من قانون النقد والتسليف. تنصّ خلاصتها على أن «ما قام به المعنيّ [الحاكم] تبعاً للمهمة العامة المنوطة بالمصرف، وأيضاً ما يرتبط بها على نحو أساسي وفقاً لأحكام المرسوم رقم 13513/ 1963 المعدّل، وأن ما امتنع عن القيام به في الشأن عينه ولا سيّما في الظروف الدقيقة جداً على الصعد النقدية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والحياتية في الوطن حتى، هو استنكاف عن تأدية ما تتناوله الصلاحيات والمسؤوليات التي ناطها به هذا المرسوم، ما يؤلّف إخلالاً بالواجبات الوظيفية وأقلّه إساءة استعمال الوظيفة، وفقاً لما يعنيه قانون العقوبات. كما أنه يؤلف خطأ فادحاً في تسيير العمل، حيث تتحقق عندها الحالتان الثانية والثالثة في المادة 19 من المرسوم عينه، وبالتالي تجعل الإقالة مبرّرة في الواقع وأيضاً في القانون».
استندت الدراسة القانونية إلى موادّ قالت إن سلامة خالف تطبيقها في قانون النقد والتسليف هي: 69، 71، 72، 73، 98 حتى 109، 113، 115، 116، 148، 151.
ثانية، رغم استمرار توقيف مدير العمليات النقدية في مصرف لبنان مازن حمدان، بيد أن التحقيق جُمّد عنده على أنه المحرّض والمتدخّل والمرتكب، وبات وحده يختصر المشكلة وبطلها. لا أحد فوقه متورّط أوعز، ولا مغزى للعثور على متورّط دونه. لدى أكثر من مرجع ومسؤول جواب من المدّعي العام المالي علي إبراهيم أن لا أدلة لديه على دور للحاكم في تصرّف حمدان بـ12 مليون دولار يومياً، شارياً وبائعاً مع الصيارفة قبل توقيفه، كأن المبلغ المهم هذا قجّته. وهو مبعث شكوك في مقدرة الموظف على إدارة مبلغ كهذا يومياً بمفرده، في معزل عن رئيسه، على نحو يفتح باب التكهّن ــ في أحسن الأحوال لئلا يقال ضلوعاً على الأقل ــ بأن الحاكم ارتكب إخلالاً بالوظيفة منصوصاً عليه في المادة 19 من قانون النقد والتسليف.
ساهم في تنفيس مقدرة القضاء على الاضطلاع بمهمته، دور مزدوج لإبراهيم كمدعٍ عام مالي ــ وهو أوقفه وادّعى عليه بصفته هذه ــ وفي الوقت نفسه هو عضو في الهيئة المصرفية العليا يتقاضى لقاء عضويته فيها راتباً إضافياً، ناهيك بأن رئيس الهيئة هو حاكم مصرف لبنان. تالياً تمسي مربكة محاولة العثور على جواب حيال مرؤوس يريد محاكمة رئيسه، وإن كان يشغل وظيفة قضائية عليا. قلّل التداخل ما بين الوظيفتين من فرص إيجاد أدلة على ضلوع سلامة ــ أو ربما لم يُرَد الوصول إلى هذا الربط ــ في العمليات النقدية التي أجراها حمدان، فاقتصرت عليه كما لو أن في وسعه أن يفعل بمفرده.
أسرّ رئيسا الجمهورية والحكومة مراراً أنّ من المتعذّر عليهما إخراج الحاكم من منصبه


لا يثير الأمر كثيراً من الالتباس والغموض، عندما يتبين أن حلقات التحقيق القضائي تتوقّف دائماً في الوسط، وتحاول الهبوط نزولاً لتفادي الصعود إلى أعلى. في كل الملاحقات القضائية والتوقيفات، في شتى الدوائر والمؤسسات الرسمية، ثمة مسؤول أول عنها يقع في الحلقة الوسطى، من غير أن ترتفع إلى رئيس أو وزير أو حاكم، ثم ينطفئ الملف عنده بعد توقيفه بعض الوقت فإطلاقه. هكذا دواليك. بذلك لا حاجة سوى إلى القول إن الوظيفة الحالية للقضاء تقتصر على تحريك المياه الآسنة لا تنظيفها.