حالة المراوحة السائدة اليوم في لبنان لا تختلف كثيراً عن حالة المراوحة التي تسود المنطقة، وربما العالم أيضاً. هي ناجمة بالأصل عن تعطل قدرات القوى الكبيرة عن القيام بحركة نوعية. نعيش اليوم على قاعدة توازن كبير نتيجته الأولى عدم قدرة أحد على قلب الطاولة. وعندما حلّ كورونا على الجميع بلا تمييز، أضاف المزيد من القيود. صحيح أنه لا يوجد نقص في الأفكار لدى مؤسسات القرار، لكن الأمر لا يتعلق الآن بالخيال، ولا حتى بتقدير الحلول الفضلى. المشكلة باختصار: غياب أدوات الفعل القادر على قلب الطاولة.لبنان لا يساوي شيئاً في هذا الخضم. مهما علا الصراخ هنا وهناك، فإن هذا البلد بالكاد يقدر على تدبير قوت يومه. وأيّ وهم يسكن اللبنانيين بقدرتهم على تحقيق خلاص الكون، هو عمل منجّمين كالذين ينتشرون اليوم لمكافحة الوباء بالخرافات. حظ لبنان الجيد، أن ينساه العالم. وحظ لبنان الأفضل أن انتبه أبناؤه إلى فرصة إعادة ترتيب أمورهم، وهي فرصة دائمة، لكنها ستُهدر كغيرها. لأن اللبنانيين «شعب عنيد» يعيش كثير منهم بجهود غيره. لكن حظ اللبنانيين العاثر في كونهم لم ينتبهوا بعد إلى أن العالم لم يعد بحاجة حتى إلى نموذجهم!
سيكون من الصعب على أهل الإنكار التعامل مع الحقائق كما هي. ففي عالم اليوم، مَن يقدر على إسماع صوته إلى اللاعبين الكبار، هو حصراً مَن يملك القدرة على تحويل قوله إلى فعل قوي. وفي حالة لبنان، ليس بمقدور أحد، سوى المقاومة، فعل ذلك. والمقاومة اليوم، تتصرّف وفق حسابات معقّدة للغاية. وفرصتها الفعلية تكمن في كسب المزيد من الوقت لأجل توفير المزيد من عناصر القوة التي تحتاج إليها في مواجهات متنوّعة محتمل وقوعها بفعل تهوّر وفجور البعض. أما بقية الناس، ولو هالَهم هذا الكلام أو أغضبهم أو استفزّهم، فجلّ ما يقومون به، هو بالضبط ما يفعله المتزعّمون للجماعات اللبنانية، حيث تدوم ألعاب النفاق، وحيث ينجحون في تمريرها على الناس في أيام القحط كما في أيام العز. وحتى يولد عندنا من يقدر على إسكاتهم بالقوة، ويمنعهم من الكلام لا من العمل فقط، فسيبقون على المسرح، وسيجدون، مع الأسف، جمهوراً كبيراً يسمع ويصفق.
ماذا بمقدورنا أن نفعل، وماذا بمقدور الأعداء أن يُنجزوا؟
أميل إلى الاعتقاد أننا لسنا في موقع المبادرات الكبيرة. أفضل الأشياء هو الإدارة الهادئة للأزمة. ورفع سقف التحديات أمام الحكومات في بلاد مثل لبنان وسوريا والعراق وإيران في سياق مواجهة الأزمات الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية. أما فكرة تعديل الوقائع السياسية فهو أمر آخر، متصل بالملف الكبير الخاص بالمنطقة. الملحّ أمامنا اليوم، وخصوصاً في سوريا ولبنان والعراق، هو الشروع في عملية منظّمة ولكن مع قدر عالٍ من المثابرة، للخروج من النماذج الاقتصادية القائمة في بلداننا. والاتجاه قسراً صوب مرحلة تتطلّب بناء الاقتصاد الخاص. وهي عملية صعبة ومعقّدة. تتطلب تعديلات جوهرية في بنية النظام. ويجب القيام بها بشكل مواز لطبيعة القوانين. صار لزاماً على القوى الممثلة لشرائح شعبية متضرّرة من النظام القائم، الشروع في عملية موازية. لم يعد مهماً الحديث عن انقلاب ومخالفة قوانين وتعديلات في آليات التعامل. لم يعد مهماً، لأن من يحرسون النظام القديم اليوم لن يتراجعوا عن آليات منحتهم كل القوة التي بين أيديهم على حساب الناس. وبالتالي، فإن الملحّ هو بناء الاقتصاد الموازي، القائم على شراكات بين هيئات منتخبة (بلديات وأحزاب ذات تمثيل حقيقي وقوى أهلية) وبين قطاع خاص فقد الأمل من النظام القائم، أو هو مضطر لاستثمار ما يملك بطريقة مختلفة. وهذه الشراكات تتيح الانطلاق بعملية بناء قطاعات حيوية في الزراعة والصناعة والتعليم والصحة. ولنترك الآخرين يصرخون طوال الليل والنهار. لنتفق أن أصواتهم، مهما ارتفعت، تمثل في أفضل أحوالها، أنين المحتضر. بينما كل صراخ يصدر من جانب بنيتنا الاجتماعية التي ستتعب في عملية الانتقال، هي عوارض نمو مولود جديد.
في مرحلة الانتظار، على الناس التوجّه إلى الاقتصاد الموازي ضمن خطة الخروج من النماذج الفاشلة


من جانب الأعداء، سيواصلون العمل بالطرق التي يعرفونها، ولو مع رفع لمستوى الضربات القاسية واللئيمة. هنا تجدر مراقبة المعركة التي جعلت قوى اقتصادية نفعية في لبنان في موقع الحليف الكامل لمؤسسات الهيمنة المالية العالمية. الأثرياء يعتقدون أن وصفات صندوق النقد والبنك الدولي وتوصيات الحكومات الغربية، إنما تصيب عملياً الإنفاق العام. وبالتالي تعطيهم المجال لمعاودة أعمال السرقة الموصوفة. وهذه المرة، سنجد هؤلاء في موقع الخصم المباشر. سنسمعهم يتحدثون عن تغيير وجه البلاد، وعن محاولة جعل لبنان يشبه الأنظمة الاشتراكية البائدة، وسنسمع من جديد الكلام عن كلفة المقاومة، وعن مخاطر معاندة المجتمع الدولي والعواصم العربية الغنية. هؤلاء لا يملكون سوى هذه المفردات، وسيلجأون إلى كل ما يقدرون عليه من أجل إنهاك الناس. تجويعاً من جهة، وتحريضاً بخلفيات طائفية ومذهبية وجهوية من جهة ثانية، وضربات قاسية تحت الحزام للمؤسسات الاقتصادية الكبيرة، ومنع الحكومات من القيام بواجباتها... كلّ ذلك سيكون حاضراً وبقوة. وسيحظى برعاية خاصة من الولايات المتحدة وأوروبا ودول الجزيرة العربية.
لكن، ثمة نقطة تقاطع غير ظاهرة للعيان، عند كل هؤلاء، تتعلق بتوجيه ضربات قاسية إلى محور المقاومة. وإذا كان مستبعداً، أو متعذّراً عليهم اليوم، القيام بعمل عسكري مباشر يؤدي إلى عواقب كبيرة، فسنجدهم يتوجهون صوب الأعمال الأمنية والتخريبية، إلى جانب المزيد من العقوبات الاقتصادية والمالية والحروب الإعلامية والضغط النفسي على الجمهور.
الجديد النوعي، ما يظهر على شكل ملامح قرار أميركي - إسرائيلي - أوروبي - سعودي، بتوجيه ضربات كبيرة إلى من يعتقد هؤلاء أنهم «أذرع إيران القوية» في منطقتنا. ولذلك، فإن خطر الاغتيالات النوعية الكبيرة يزيد يوماً بعد يوم. ومع ذلك، فمن قال بأن تقديرات العدو نجحت في ما مضى، ولا سيما على صعيد النتائج البعيدة المدى... ومن يقدر على التكهن اليوم بما ستكون عليه الأمور في كل منطقتنا بعد عام من الآن؟
إنها الأيام الأصعب... فلننتبه!