كنا نأمل أن تمر الذكرى الخامسة والأربعون لاندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة على خير. أن تكون مناسبة للوئام والتعاضد والتلاحم الوطني، في هذه الأيّام الصعبة التي يحاصرنا فيها الطاعون، وتنهمر علينا من كل حدب وصوب لعنات نتحمّل نحن، لا السماء، مسؤوليتها. كنا نأمل، والوباء ماض في حصاد الأرواح، والجوع يتهدد أكثر من نصف الشعب اللبناني، أن ننجوَ من ترسبات تلك الحرب التي لا تنتهي من الانتهاء، وخطاباتها المضمّخة بدمائنا، وأمراضها الفتاكة، وحقدها العقيم، فنتفرّغ لموتنا الراهن... عسانا بواحدة من تلك «الأعاجيب» الوطنية التي يعرفها التاريخ، ننهض من كبوتنا ونستعيد - ولو عبر تضحيات عظمى - رهاننا على مستقبل مختلف لنا ولدولتنا ونظامنا. لكن لا، عبثاً، فنارُ الانحطاط رابضة تحت الرماد، وخطاب الكراهية بضاعة سهلة الرواج لها مستثمروها وصنّاعها ومروّجوها. لكن لا، ما زالت الحياة السياسية في لبنان، ما زالت الذاكرة الوطنيّة المثخنة، تحت رحمة حفنة من تجار الخوف وسعاة الفتنة.صحيح، جرح الحرب الأهليّة لم يندمل! لأن الطبقة السياسية لا تريد له أن يندمل، بل تركت القيح يعشش فيه، فهو ضمانة استمرار النظام القائم على التعصب والطائفيّة، والولاء الأعمى للزعيم، والعداء لمواطن لبناني آخر «مشتبه به» كخطر متربّص. هذا الجرح نفسه يتسلل منه أيضاً المستعمر وخدمه الاقليميون ليستلبوا مصلحتنا وحقوقنا وقرارنا. جرح الحرب الأهليّة لم يلتئم لأن أحداً لم يشتغل على ذلك، لم تتبلور قوّة سياسية قادرة على مواجهة المقاولين والسماسرة الذين صنعوا خرابنا بالشراكة مع أمراء الحرب. وإذا بالخطاب الانعزالي يعود إلينا في كل مناسبة، تارة في مناسبة فيلم سينمائي يعيد الاعتبار إلى الرواية الانعزالية للحرب (فيلم زياد دويري وأنطون صحناوي في مديح بشير الجميل وأبلسة الفلسطينيين ثم «مسامحتهم» النبيلة على طريقة مقدمة أخبار الـ otv أوّل من أمس)، وطوراً مع ذكرى تفرضها الروزنامة (من بشير الجميل إلى «لبنان الكبير»)... فكيف لذكرى 13 نيسان/ ابريل و«بوسطة عين الرمانة» ألاّ تكون فرصة ذهبية لخروج هذه العفاريت الكامنة في اللاوعي الجماعي؟
هكذا جاء رسم كاريكاتوري في منتهى القبح والبلادة فنيّاً، وقلّة الأخلاق والعنصريّة والخطورة، لينكأ هذا الجرح أوّل من أمس، ويعيدنا الى أحطّ دركات الزمن الأسود. يقول الرسم، وتقول الجريدة التي نشرته: «الفلسطيني» في 13 نيسان 1975، و«كورونا» في 13 نيسان 2020. في البلد الذي فرش حكامه الفاسدون للعميل عامر فاخوري بساطاً من الورد من المستشفى العسكري إلى عوكر، تقارن «الجمهوريّة» وباء لعلّه الأخطر على البشريّة منذ قرن، مع شعب كامل، مع بشر «يصدف» أنّهم أهلنا الذين يواجهون حملة إبادة منهجيّة منذ 72 عاماً. ولم تكن «المحطّة االبنانية» إلا أحد فصول تلك الإبادة. وقد وعد بشير الجميل عرّابه شارون بتصفية القضية الفلسطينية، عبر ذبح اللاجئين في لبنان وتهجيرهم وتحويل مخيماتهم إلى حدائق حيوان، مقابل انتخابه رئيساً (راجع الوثائق التي تضمنها كتاب المؤرخ الأميركي سيث أنزيسكا، «منع فلسطين: تاريخ سياسي من كامب ديفيد إلى أوسلو»). «الجمهوريّة» - التي طالبها المطران عطالله حنا أمس من القدس بالاعتذار عن «هذا الكاريكاتور الذي يتناقض مع كل قيمة انسانية»، مضيفاً: «الله يهديكم» - ارتكبت خطأ أخلاقياً بقدر ما هو سياسيّ، وهي حتى إثبات العكس متواطئة مع القتلة، وشاهدة زور على المجزرة المتواصلة ضد هذا الشعب. مجزرة ازدادت بشاعة في السنوات الأخيرة، مع ارتفاع وتيرة العنف لدى جيش الاحتلال وحصار غزّة وهدم البيوت ومصادرة الارزاق وذبح المواطنين العزّل وبناء المستوطنات، مرواً بمحاولة اغتصاب القدس بمساعدة ترامب وقانون يهودية الدولة، وصولاً إلى صفقة القرن. وما صفقة القرن هذه الا محاولة جديدة لإحياء مشروع تصفية المقاومة الفلسطينية، بقرار من «الأخ أكبر» نفسه الذي عمل على اغراقها في الرمال المتحرّكة للحرب الأهليّة في لبنان قبل 45 عاماً.
في اللحظة التي نرى وطننا يتهاوى، وحكامه شركاء «نادي الواحد بالمئة» يتفننون في بيعه قطع غيار، بأبخس الأثمان، لتغطية فسادهم وسوء ادارتهم وهدرهم ونهبهم المنهجي، ويصرّون على تقاسم كعكة الدولة وتوزيعها في ما بينهم باسم «حقوق الطوائف»... كان لا بدّ من «بعبع»، من فزّاعة تشغل الناس التي تساق إلى الذبح على يد ملوك الطوائف. والفلسطيني كبش فداء نموذجي بالنسبة إلى الخطاب الانعزالي المذعور الذي انتج العملاء وغوييم الشبات منذ الاستقلال وربّما قبله. هناك من يريد اليوم إحياء الرواية الانعزالية للحرب الأهليّة اللبنانيّة الرابضة في لاوعي مذعور ومقهور، عبر استعادة السردية البلهاء والساذجة التي تصدّق أن الحرب اللبنانيّة اندلعت لأن «الفلسطينيين أرادوا أن يحتلوا لبنان ويطردوا المسيحيين بالبواخر إلى كندا». أيّاً كانت أخطاء الحرب الاهلية، وهي كثيرة ومؤسفة ويتحمّل مسؤوليتها كل أطراف تلك الحرب بنسب متفاوتة، فإن كل الأحداث والمعارك والمذابح والمواجهات تشير إلى حقيقة الصراع الأساسي والوجودي الذي تخوضه شعوبنا من أجل استعادة حقوقها الوطنية والقومية في مواجهة المشروع الاستعماري نفسه الذي يعمل على سرقة الأرض والحقوق والثروات وتصفية القضية الفلسطينية.
ليس المطلوب تجاهل «التروما» التي ورثها اللبنانيون من الحرب، لكن وحده وطن متماسك منخرط في الدفاع عن الهويّة العربيّة، في دولة قويّة عادلة، يؤدي إلى الشفاء منها. الجرح العميق الذي تعيشه هذه الفئة أو تلك (ويتغيّر حسب وجهة نظر الضحية) ليس لعنة أبدية. كم شعبِ عرف حرباً أهلية، ثم شيّد نصب الوئام والمصالحة الوطنية، وبنى دولة قانون، واتفق على رواية موحدة للتاريخ ومستقبل مشترك. لكنّ الخطاب الانعزالي عندنا ما زال يستغل الجرح ويتاجر بالخوف والحقد والعنصرية ويزوّر التاريخ. كاريكاتور «الجمهوريّة» يختصر الانعزالية اللبنانية في أبلغ تجلياتها. مقارنة وباء كورونا بأهلنا الفلسطينيين، وإحياء الرواية الانعزالية للحرب الأهلية؟ يا ­جرذان الفاشية! الوباء الحقيقي هو العنصرية والانعزالية واليمين المتطرف. والحرب نفسها مستمرة منذ 1975 ضد المشروع الأميركي الإسرائيلي إيّاه، وأنتم أسخف أدواته!‬