حتى مع عودة أسعار النفط إلى الارتفاع عن المستوى الأدنى الذي وصلت إليه، فإن الأسعار الحالية التي تتذبذب حول متوسط 34 دولاراً لا تزال تشكل فرصة استثنائية للبنان للاستفادة من وفر يصل إلى 50 في المئة، بالمقارنة مع السعر الوسطي الذي رسمت على أساسه خطط كهرباء لبنان.هذا الوفر، قد يزداد أيضاً بالنظر إلى تقديرات مراكز الدراسات التي تتوقع عودة الأسعار إلى الانخفاض بنتيجة عوامل عديدة، أبرزها التباطؤ الاقتصادي العالمي الناتج من كورونا. شركة IHS المتخصصة بالدراسات النفطية، تقدر، على سبيل المثال، أن الأسعار حتى نهاية السنة ستتراوح بين 10 و20 دولاراً للبرميل.
أمام هذه التوقعات، التي يشير أكثرها «تفاؤلاً» إلى استقرار الأسعار عند ٣٠ دولاراً للبرميل، فإن السؤال الذي يفترض بالحكومة أن تجيب عنه هو: هل لا يزال السعي إلى تشغيل معامل الكهرباء على الغاز يشكل أولوية، والأهم، هل لا يزال مجدياً اقتصادياً؟
مبرر السؤال أن سعر الغاز مرتبط عضوياً بسعر النفط، وبالتالي فإن الوفر الذي كان مقدراً على سعر 75 دولاراً انخفض ما يزيد على 50 في المئة. للتذكير، فإن تشغيل معملَي دير عمار والزهراني على الغاز، كان يمكن أن يؤدي إلى توفير ما يقارب 700 مليون دولار سنوياً، عندما كان سعر البرنت 75 دولاراً. الوفر كان ضخماً، ولهذا تعب المتخصصون من توسّل الحكومات المتعاقبة السير بالمشروع منذ سنوات طويلة. لو أنجزت محطات التغويز في عام 2008، حين طرحت للمرة الأولى بشكل جدي، لكن الوفر في المعملين فقط (900 ميغاواط) بلغ، تراكميأ، نحو 10 مليارات دولار. لكن بين صراعات السياسيين ورجال الأعمال ومصالحهم الفئوية والمالية، ضاعت تلك الفرصة.
حتى المناقصة الأخيرة، مرّ عليها سنة ونصف سنة من دون أن تُبتّ. الحكومة لم تُقرر حتى اليوم وجهتها بانتظار التفاوض مع الشركات. يحدث ذلك، من دون حسم مسألة عدد المحطات المطلوبة. هل يتم السير بثلاث محطات خلافاً لكل الآراء التقنية، أم يقتنع المعنيون بأن تلك فضيحة ينبغي إنهاؤها، والاكتفاء بواحدة أو اثنتين بالحد الأقصى؟ في مجلس الوزراء، تعارضت الآراء أيضاً، مع ميل رئيس الحكومة إلى السير بنتيجة المناقصة كما هي، أي إعلان فوز تحالف «قطر بتروليوم< و«إيني» بعقد إنشاء ثلاث محطات عائمة لتغويز الغاز السائل. ربطت هذه الموافقة بإغراءات مالية قدمتها قطر لمساعدة لبنان.
مطلعون على الملف يؤكدون أن العرض القطري الذي كانت كلفته 13 مليار دولار على عشر سنوات، يتضمن بنداً يسمح بتعديل السعر بنسبة 30 في المئة صعوداً أو نزولاً، تبعاً لمعطيات عديدة. هذا يعني أن التفاوض مع الشركة قد يسمح بالحصول منها على حسم 30 في المئة. لكن، هل تجوز افتراضات ما قبل كورونا والأزمة المالية في لبنان اليوم؟ في الوقت الراهن، كل الشركات العالمية تنحو باتجاه تقليص نفقاتها الاستثمارية بشكل كبير. «إيني»، على سبيل المثال، خفّضت استثماراتها في كل أنحاء العالم. «كيو بي» تملك الملاءة المالية، لكن هل لا تزال ترغب في الخوض في استثمار ضخم، أدى انخفاض أسعار النفط إلى زيادة فترة استرداد قيمته من ٤ سنوات إلى سبع سنوات؟ لم يُحسم الأمر بعد، لكن أحداً لم يبلغ اللبنانيين بأي تطور من هذا القبيل.
ليست القضية متعلّقة بوجهة الشركات حصراً. هل للبنان مصلحة حالياً بالدخول في صفقة لم يعد معروفاً حجم الوفر الذي ينتج منها؟ يوضح مصدر مطلع على المناقصة، أنه في حال اعتماد محطة أو اثنتين، فإن للبنان مصلحة أكيدة بالاستمرار في خطط تشغيل المعامل على الغاز، مهما تغيرت أسعار النفط. على سبيل المثال، فإن السعر المقدم من تحالف «إيني ــــ قطر بتروليوم»، يشير إلى أن سعر المليون «مليون بي تي يو» (وحدة قياس الغاز) يساوي 0.12 * سعر برميل برنت.
وهذا يعني بالأرقام، أن الوفر المحقق من تشغيل معملي دير عمار والزهراني على الغاز سينخفض إلى 180 مليون دولار وفق سعر 25 دولاراً للبرميل بعدما كان يصل إلى 700 مليون دولار وفق سعر 75 دولاراً لبرميل النفط. الوفر لا يزال كبيراً وتُضاف إليه الجدوى البيئية وتحسين أداء المولدات في المعامل.
الوفر المحقق من تشغيل معامل الكهرباء على الغاز ينخفض من 700 مليون دولار إلى 180 مليوناً


لا يزال الغاز الأفضل استراتيجياً للبنان بالمقارنة مع النفط، لكن السؤال هنا يصير من أين نحصل على الغاز؟ مناسبة السؤال أن الاستكشاف في البحر اللبناني صار في مراحله النهائية. أسابيع قليلة وتظهر النتائج الأولية. حتى اليوم، يكتفي المعنيون بالإشارة إلى أن الوضع جيد. جيد يعني أن عملية الحفر التي وصلت إلى 3500 متر تحت سطح البحر (2000 متر في باطن الأرض) لم تعترضها أي مشاكل. يبقى نحو 500 متر أو أكثر قليلاً وتنتهي المهمة. صحيح أن التحليل الكامل للمعطيات قد يحتاج إلى شهرين، لكن المؤشرات ستتضح فور إنجاز الحفر.
لذلك، يفترض أن لا تصدر الحكومة أي قرار يتعلق بمحطات الغاز قبل انتهاء الاستكشاف في الرقعة الرقم ٤. لو لزّمت المحطات قبل سنة، لكان أمكن التغاضي عن مسألة الحفر. أما اليوم، وعلى بعد ثلاثة أسابيع من استكشاف الغاز، فذلك يحدد مصير المحطات. إذا تم تلزيم إنشائها لأي شركة، فستحتاج لإنجاز أعمالها إلى نحو 3 سنوات، بعدها يفترض أن يلتزم لبنان بالحصول على الغاز منها لـ 10 سنوات. وفي حال لم يتبين وجود كميّات تجارية في البحر اللبناني، فإنه لا بد أن محطة التغويز ستشكل حاجة ماسة، لكن إذا تبين وجود كميات تجارية، فذلك سيتطلب إعادة النظر بالمناقصة برمّتها.
مع افتراض أن لبنان اتفق مع تحالف توتال على البدء باستخراج الغاز خلال أربع سنوات، يكون الفارق بين الحصول على الغاز من محطة التغويز أو من المكامن الطبيعية سنة واحدة. هذه السنة أهميتها كبيرة. واحد من المحفزات لشركات التنقيب للإسراع في الحفر، وحتى لتطوير البئر، أن يلتزم لبنان بالحصول على حاجته من الغاز منها. ذلك يضمن للشركة المطورة للبئر خط إمداد دائم، وإن كان محدوداً. أما إذا عمد لبنان في الوقت الراهن إلى توقيع العقد للبدء بتجهيز محطات الغاز، فإنه لن يستطيع الحصول على الغاز من آباره قبل 10 سنوات (إلا إذا اتفقت الشركة المشغّلة للمحطة مع شركة توتال لإمدادها بالغاز). لكن إلى ذلك الحين، سيكون على توتال أن تبحث في جدوى تطوير الحقل إذا لم تتمكن سلفاً من توقيع عقود غاز كافية، بعيداً عن لبنان. تلك خسارة قد تفوق خسارة سنة إضافية من الغاز.