بصرف النظر عن العوامل الداخلية التي أدت الى إرجاء بتّ بند التعيينات، بعد اعتراض رئيس تيار المردة سليمان فرنجية على استئثار رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بالحصص المسيحية، إلا أن لملف التعيينات المالية وجهاً آخر. ثمة بُعد دولي لقرار محلي، يتعلق بالرغبة في عدم استفزاز الأميركيين، كيفما كانت خاتمة هذا الملف وأسماء الذين ستقع عليهم القرعة، وليس حصراً بشخصية أو اثنتين تتمسك بهما واشنطن.ليس جديداً أن للأميركيين دوراً مباشراً في القطاع المالي، وهو يجري بمعرفة كل الأطراف السياسيين، سواء الذين كانوا في السلطة منذ التسعينيات أو الذين أتوا إليها بعد عام 2005. والعلاقة الأميركية لا تقتصر على شخصية واحدة يستثمر فيها الأميركيون جهدهم واتصالاتهم ومعلوماتهم، وتنتمي الى فريق سياسي واحد. فتشابك المصالح والتداخل بين رغبات القوى السياسية والمصرفية ورجال المصارف والطامحين الى القيام بأدوار فاعلة، يجعل هؤلاء لا يستثنون العلاقة مع الأميركيين، في مسارهم المهني والسياسي. لا يستثمر الأميركيون في وديعة واحدة، بمعنى الحصرية، وقد سبق أن جرت رهانات كثيرة على شخصيات أمنية ومصرفية وسياسية على أساس أنها «تخصّ» الأميركيين وتحت حمايتهم. لكن في لحظة أيّ متغير فعلي، يتم التخلي عن هؤلاء لمصلحة من يخلفهم في المواقع الحساسة، ويصبح شاغلوها الجدد ودائع أميركية جديدة.
ما يحصل في التعيينات المالية لا يتعلق باستفاقة متأخرة لرئيس الحكومة حسان دياب على موضوع الكفاءة، ولا يتعلق حصراً بحسابات رئاسية بين فرنجية وباسيل. فهناك أكثر من نظرية متداولة في هذا المجال تتعلق بالحسابات الفعلية مع الأميركيين وتحسين العلاقة معهم، في مرحلة حساسة مالية واقتصادية، وتشمل استطلاع لبنان لموقف صندوق النقد الدولي وشروطه.
بعد إطلاق عامر الفاخوري، يصبح الكلام عن دور أميركي أكثر تعقيداً، لأن هذه القضية قفزت فوق اعتبارات أمنية وسياسية وقضائية. وإذا كانت لم تحسم بعد كامل ظروفها، فإن ما حسم منها هو الرغبة لدى الفريق السياسي الذي أنجز الصفقة، بمراعاة الأميركيين وتلبية شروطهم. فمن تمكن من إنجاز هذه الصفقة لمراعاة الأميركيين، لن يُقدِم في القطاع المالي على ما يعَدّ استهدافاً لهم ولما يعتبره الأميركيون استمرارية للتعاون المصرفي الطويل الأمد، وخصوصاً في مرحلة العقوبات على حزب الله. فالتركيبة المصرفية الحالية مهما تنوعت انتماؤاتها الحزبية والطائفية لم تخرج عن سياق محكوم بضوابط العلاقات المصرفية والسياسية مع واشنطن، كما فعلت وزارة المال سابقاً وحالياً، وشخصيات نيابية متنوعة الانتماءات ظلت على تواصل مع دوائر أميركية تشريعية أو مالية، كما كان يجري كل مرة تتصاعد فيها حدة العقوبات على القطاع المصرفي. حتى الحكومة الحالية، طبعت أولى خطواتها في عالم السياسة بتعداد «الأميركيين» بين أعضائها.
والتعيينات المرتقبة لن تشذّ عن هذا المسار، مهما كانت الأسباب التي تدفع القوى السياسية الى استبدال شخصيات انتهت ولايتها، بأسماء تدين لها بالولاء الحزبي والسياسي. فالتيار الوطني الحر الذي يريد تحقيق خرق أساسي في هذه الدوائر المالية، ما يؤمن له دخولاً مريحاً الى مجال نفوذ أساسي، لن يدخل الى العالم المالي من بابه العريض مستفزاً لأي دور أميركي. فهذه التعيينات ليست محلية، في كهرباء لبنان أو الكازينو، بل هي، قبل قضية الفاخوري، تأخذ أبعاداً دولية، فكيف الآن، بعدما كُسرت مرحلة الجفاء الطويلة؟ وأي تعيينات ولو حصل فيها تغيير بالأسماء، ستمثل (عدا عن الاستفادة المحلية الضيقة) خرقاً في مجال تحسين العلاقات مع واشنطن وتعزيزها. وهذه تعدّ بمثابة دفعات على الحساب، في إنجاز خطوات يستثمر فيها على المدى البعيد، لأن من أنجز إطلاق الفاخوري لن يكسر الجرة مع واشنطن في اختيار أسماء مستفزة لها، علماً بأن هناك شخصيات لا يمكن لدى وصولها الى بعض المواقع الحساسة إلا أن ترسم مستقبلها تحت سقف العلاقات الجيدة مع عواصم معنية مباشرة بالقطاع المالي. فتحْتَ غطاء الكفاءة والعلم والخبرة، يمكن غزْل الكثير من الأسرار والصفقات المالية. ومن قال إن الذين يقومون اليوم بهندسة أساليب التضييق على المودعين ليسوا من أصحاب الكفاءة والعلم والخبرة؟ لكن السؤال الذي يُطرح اليوم: هل من عمل على نزع هذا الفتيل كي لا تنفجر القنبلة في مجلس الوزراء، فعل ذلك لأسباب داخلية تتعلق حصراً بنزاع سياسي داخلي؟ أم أنه لا يرغب في زيادة التوسع الداخلي والخارجي لأي طرف سياسي، مستفيداً من مرحلة انشغال الجميع بالأزمات الصحية والمالية والاقتصادية؟ أولاً وآخراً، لا تزال قضية الفاخوري حية خلف الستارة.