لا يمكن اختزال نظرة حزب الله الى المصارف من زاوية العلاقة بينهما، في ظل العقوبات الأميركية على الحزب. الأكيد أن تلك العلاقة فيها كثير من الإشارات السلبية نتيجة تصرف عدد من المصارف، من خلال اجتهادات طاولت من ليس مدرجاً على لوائح العقوبات الأميركية. لكنها أيضاً حملت إيجابيات كثيرة استمرت سنوات. والقطاع المصرفي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة يعرفان جيداً كيف بنيت هذه العلاقة التي حافظت على إيقاعها التعاوني، وكيف أدّى التوازن دوره أيضاً في عدم قطع أي طرف الخطوط الحمر تجاه الآخر. ومع تدرج العقوبات تصاعدياً، كان الحزب يحرص على التذكير بأن قنواته المالية غير معنية بهذه العقوبات، وهو أمر توسع لاحقاً ليشمل الكلام على الأوضاع المالية التي تفاقمت بعد 17 تشرين الأول.قبل أن يتحول فيروس كورونا إلى الشغل الشاغل للبنانيين والعالم، كانت الأوضاع الاقتصادية العنصر الأساسي في مطالب المتظاهرين الذين نزلوا الى شوارع لبنان وساحاته، قبل أن يتدحرج الوضع المالي والاقتصادي في اتجاه مشكلات أكثر حدة. ونتيجة التدابير الجهنمية التي اتخذها مصرف لبنان وجمعية المصارف، انحصر اهتمام الناس بقبض رواتبهم كاملة وتحصيل أموالهم بالعملة الأجنبية وتأمين تحويل أموالهم الى أبنائهم خارج لبنان. بين الأزمتين المعيشية والمالية توزع موقف حزب الله، في تأييده المطالب ورفضه في آن إقفال الطرق ومساواته مع القوى السياسية الأخرى. لكن موقفه من المصارف بقي حذراً، ولا سيما بعدما تأطرت مجموعات شبابية ــــ معظمها يسارية ــــ ضدها. لم يقطع الحزب الخط الأحمر معها، رغم أن شخصيات معارضة له اتهمته بأنه وراء استهداف القطاع المصرفي، من دون الالتفات الى نوعية المحركين والمتظاهرين اليساريين، قبل أن يحاول التيار الوطني الحر تأدية دور المعارض في تظاهرة مسرحية أمام مصرف لبنان، لأسباب لا تمتّ بصلة الى حقيقة الاعتراض على سياسة سلامة.
إلا أن موقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أخيراً، وارتفاع حدّته تجاه المصارف، لجهة أدائها في الأزمة الحالية وتعاملها مع المودعين ومع اللبنانيين في الخارج، وضع الحزب أمام استحقاق سياسي واقتصادي مباشر، لا يعني شريحة واحدة من اللبنانيين. فالنظام المصرفي ليس نظاماً «مسيحياً» ــــ كما أن الجيش ليس جيشاً «مسيحياً» ــــ حتى تستنفر بكركي والأحزاب والشخصيات المسيحية للدفاع عنه كلما اعترض أحد على أدائه. وإذا كان كذلك، فلماذا لم تبادر هذه القوى، وبكركي صاحبة علاقة وطيدة مع كبار المصرفيين، ومعها مجموعات السياسيين والإعلاميين المستفيدين، الى حث جمعية المصارف على الإفراج عن أموال الناس؟ وهذا القطاع ليس «سنياً» حتى يهبّ الرؤساء السابقون للحكومة للدفاع عنه في كل لحظة يُتَّهم فيها سلامة والقطاع المصرفي بسرقة الودائع. فحجم الإذلال الذي يعانيه اللبنانيون، بكل طوائفهم، منذ ستة أشهر، بات في كفة، وما يعيشونه من إذلال من المصارف خلال الأزمة والتعبئة الحالية في كفة أخرى، بعدما صعّدت إجراءاتها من دون أي رادع أخلاقي، وبلا مسوّغات قانونية. وحزب الله بعد كلام نصر الله، لم يعد قادراً على الوقوف في منتصف الطريق، إذ إنها المرة الأولى، التي يشعر فيها القطاع المصرفي بالقلق بعد خطابه، وهو ينتظر الإطلالة التالية له وما يمكن أن يطاوله مجدداً من تصعيد أو تخفيف نبرة، حتى ينتقل قلقه الى مرحلة التوجس من الخطر، فيتساوى بذلك مع المودعين الخائفين على أموالهم ومعيشتهم. فهذا القطاع، بعدما لمس مخاطر التعرض له من مجموعات شبابية مباشرة، ظل مطمئناً يوماً بعد آخر، الى تغطية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل له، ومعهما أركان المعارضة. واطمأن أيضاً أكثر بعد المظلة التي وفرها له رئيس الحكومة حسان دياب، ووزير المال غازي وزني الذي بنى حيثيته قبل توزيره على الترويج لسياسة حاكم مصرف لبنان. من دون أن ننسى التغطية الأمنية التي يؤمنها له علانية القضاء والجيش وقوى الأمن. وعناصر الاطمئنان هذه، التي يتحمل الحزب أيضاً مسؤولية «سكوته» عنها، ينبغي أن تشكل ضمانة للمودعين وليس العكس. وهذا ما يضع الحزب بعد كلام نصر الله، أمام تحدي رفع السقف عالياً في وجه المصارف، رغم أن تصعيده في وجهها سيواجه بحملة منظمة من المستفيدين، ليس من النظام المصرفي وحسب، بل من خدمات المصرفيين أيضاً. مع أن حربه مبررة حتى أمام أي جهة دولية، لأنها لا تتعلق بحرب سوريا ولا باستخدام السلاح في الداخل، ولا بوضع اليد على المصارف وتغيير وجهة النظام المالي أو «وجه لبنان»، بل تعني إعادة الأموال الى أصحابها. ففي غياب رئاسة الجمهورية والحكومة معاً، صارت هذه الحرب مطلوبة أكثر من أي وقت مضى، قبل أن ينهش الجوع اللبنانيين، بعدما كرست المصارف نفسها كالمافيا المنتعشة في أوروبا التي تستفيد من انشغال الناس بأمراضهم كي تنهبهم وتضاعف ثرواتها.