هي المرة الأولى التي يقف فيها رياض سلامة في قفص الاتهام. قرار مفاجئ أصدره مجلس الوزراء أول من أمس، طلب فيه من وزير المالية «القيام بعملية تدقيق محاسبية مركّزة لتبيان الأرقام الدقيقة لميزانية المصرف المركزي». تلك خطوة، إذا لم تُعرقَل، ستؤدي إلى نزع السلاح الأقوى من سلامة. فبعدما دأب على رفض التصريح بحقيقة موجودات المصرف المركزي، سيلزمه القرار فتح دفاتره أمام التدقيق الحكومي، تمهيداً للحصول على ميزانية حقيقية لا تشبه تلك التي ينشرها المصرف على موقعه الالكتروني، أو التي أعلنها في لجنة المال النيابية، أو أمام رئيس الحكومة.مجرد إصدار القرار هو اتهام لسلامة بعرقلة عمل الحكومة وخطتها الإنقاذية. لكن ماذا بعد القرار؟ هل سيعود شياطين سلامة في السلطة لحمايته؟ تلك أمور يصعب التكهن بها حالياً، لكن الأكيد أن تغييراً طرأ على آليات العمل، وينتظر أن تظهر معالمه، إن كان في عملية التدقيق تلك أو في التعيينات المالية.
مع اقتناع كثر بأن القرار ليس إلا قراراً شكلياً، فإن آخرين يدعون إلى انتظار التنفيذ للإجابة على سؤال: هل يمهد القرار الحكومي لتحميل سلامة مسؤولية ما وصل إليه الوضعان المالي والنقدي، أم أن هدفه الحصول على المعلومات حصراً؟ مهما كان السبب، فإنه يعبر عن رفع الغطاء جزئياً عن سلامة. رفع الغطاء بما يعنيه من نهاية الحاكم المطلق، وإعادة الحكومة، وربما لاحقاً، المجلس المركزي إلى لعب دوره في رسم السياسة النقدية.
لكن بالمباشر، لا يمكن إغفال أمر أساسي حتّم القرار: حاجة الحكومة إلى معرفة المعلومات الحقيقية عن حجم الأموال الموجودة في المصرف، احتياطاته، أموال المصارف لديه، قيمة الأموال القابلة للاستخدام…. تلك معلومات لا بدّ من أن يمتلكها من يريد إعادة هيكلة الدين العام ومالية الدولة، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، خاصة أن المستشار المالي «لازارد» سبق أن حذّر من وجود خسائر متراكمة مخيفة في مصرف لبنان (تقدّر بنحو 55 مليار دولار).
لكن مع ذلك، يدرك مُعدّو القرار أن المعركة ليست بسيطة. وإذا كان أغلب أركان السلطة قد تخلى عن سلامة، فإن بيان كتلة المستقبل، أول من أمس، عاد ليذكّر أن «الحاكم» ليس متروكاً لوحده. وهذه الرسالة قد تفهم في بعدين محلي ودولي، طالما أن الولايات المتحدة الأميركية هي الراعي الأول لسلامة، الراعي الأول لمصالحها في لبنان. وربما لذلك، لم تلجأ الحكومة إلى الإجراء البديهي في مثل هذه الحالة. ذهبت إلى البحث في التدقيق في الميزانية بالتعاون مع المتهم نفسه، بدلاً من إقالته قبل أي عمل آخر.
مع ذلك، فإن المحاولة بدأت، مستندة إلى واقع جديد، عنوانه الأول سقوط أسطورة «الليرة بخير». لكن سلامة لم يكن لوحده يوماً. سياسته كانت الأوكسجين الذي تتنفّسه الطبقة الحاكمة، بـ«وجهَيها» السياسي والمالي. وتلك بايعته على مدى 30 عاماً، بوصفه المعجزة اللبنانية. أمّنت له الحماية والدعم الكامل. ولذلك، كان التدقيق في ميزانية المصرف المركزي خطاً أحمر. وقد تخطى النائب جورج عدوان يوماً هذا الخط، معلناً، في جلسة نيابة عامة، أن «المراقبة والمحاسبة غير موجودتين في مصرف لبنان لأن لديه علاقات أكبر من أن يتخطاها أحد... ونحن مشغولون بالضرائب بينما يجب أن يُدخل مصرف لبنان مليار دولار سنوياً إلى الخزينة». حينها، وكان ذلك في ١٧ تشرين الأول ٢٠١٧، طالب عدوان وزير المالية علي حسن خليل بتقديم تقرير مفصّل عن أرباح مصرف لبنان منذ 20 عاماً، كما أكد أنه سيتقدم بطلب تشكيل لجنة تحقيق بالموضوع.
هل تتمكّن لجنة التحقيق من كشف الأرقام التي يخفيها سلامة؟


ماذا حصل حينها؟ سريعاً بدأت عملية الاحتواء. على هامش الجلسة النيابية عُقد اجتماع رباعي جمع الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري ووزير المال وعدوان. وقد أكد خليل حينها أن «مصرف لبنان يقدم لوزارة المال سنوياً قطع الحساب المتعلق بماليته». والحاكم نفسه أصدر بياناً قال فيه إنه «لم تمض سنة من السنوات الـ20، التي تحدث عنها النائب عدوان ولم يقدم المصرف المركزي على قطع الحساب السنوي والتقدم به إلى وزارة المال ودفع ما يتوجب عليه أن يدفعه ضمن القانون».
ولكي تكون الإحاطة السياسية كاملة، عبّر وزير العدل، حينها، سليم جريصاتي، عن استغرابه «مطالبة عدوان بلجنة تحقيق برلمانية في وقت يتحرك فيه الحاكم لمعالجة كثير من القضايا التي تعني لبنان».
أُقفل الملف على عنوان أساسي: المصرف المركزي لن يقدم أي تقرير إلى المجلس النيابي، ولا معلومات متوفرة أكثر من تلك التي ينشرها على موقعه الالكتروني. أما الميزانية التفصيلية المتضمنة الاحتياطات وتوزيعها وأماكن إيداعها، وكذلك ودائع المصارف وتوزيعها...، فتلك بقيت سراً من أسرار رياض سلامة. وقد قرّرت الحكومة كشفه اليوم. فهل تنجح بذلك، أم ينتهي الحال كما انتهى ملف المصارف في النيابة العامة المالية؟