لا تنهار دولة بين يوم وآخر. ولا تتحجج دولة ما بذرائع واهية لتبرير الأخطاء التي تراكمها منذ سنوات طويلة، من دون أن تجد الجرأة لمواجهة سقطاتها المتتالية. ولا يمكن للبنان الرسمي التذرع بأن الفشل في معالجة الأزمة المصرفية، ومن ثم الفوضى في وضع استراتيجية عملية للحد من انتشار فيروس كورونا، سببها أحداث 17 تشرين الأول وما تلاها من انتفاضات شعبية في وجه السلطة الحالية والسابقة، أو في أدنى الأحوال التشبه بما يحصل في عدد من الدول الأوروبية، سواء اليونان وقبرص في ما خص التعثر المالي، وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا في منع انتشار الوباء العالمي. تبعاً لذلك، لا يحتاج لبنان الى أي مؤشر خارجي لإعلانه دولة فاشلة، ولا الى تبريرات اقتصادية ومالية من نوع عدم تسديد مستحقات اليوروبوند، كي يعلن بنفسه انهيار مؤسساته الرسمية، وتهديد المؤسسات الخاصة، نتيجة السياسات الخاطئة والانهيار الداخلي لسلّم القيم والأخلاق وسياسات الجشع المتواصلة، التي يتشارك فيها كثير من اللبنانيين مع زعمائهم. فلكل دولة فاشلة، بحسب التفنيد العملي، أسبابها المختلفة عن الأخرى، لكنها تجتمع على مؤشر أكيد هو مدى البؤس الذي يعانيه شعبها. هو التوصيف الذي بات ملتصقاً بلبنان، الذي جمع أيضاً في الأسابيع الأخيرة كثيراً من هذه الأسباب تحت عنوان واحد.لعل أهمية ما حصل منذ اندلاع التظاهرات، أنه كشف عورات السلطات المتعاقبة والنظام الحالي، فظهرت حقيقة الأزمة المالية من دون مواربة وكذلك السرقات المصرفية وتهريب الأموال الى الخارج، والسطو على ودائع اللبنانيين، وتواطؤ السياسيين وحالياً القضاء والأمن، مع المصرفيين. لم يكن ممكناً أن تظهر هذه المعلومات إلا نتيجة الضغط الشعبي، وإن شابته أخطاء واستغلال سياسي له. رغم ذلك، تمكن اللبنانيون من معرفة حجم المأساة والتأثيرات السلبية لممارسات مصرف لبنان والسلطة السياسية، على القطاعات الداخلية الحيوية من صناعية وتجارية وزراعية واستشفائية. بمجرد أن شكلت حكومة الرئيس حسان دياب، سعت الطبقة السياسية إياها الى طيّ صفحة المرحلة الفائتة، وسحب فتيل المساءلة حول أدائها الماضي (والمستقبلي). لكن استحقاق اليوروبوند وخطط الحكومة الإصلاحية الموعودة وانفضاح الممارسات المصرفية أعاد تظهير المخاوف من انهيار حتمي، ولا سيما أنه يترافق مع ضغط خارجي، مرشح للمزيد في ضوء عودة الأميركيين الى الكلام عن عقوبات إضافية، والتلويح مجدداً بقرارات المحكمة الدولية، في مقابل غيبوبة كاملة للمسؤولين عن مواكبة الاستحقاقات الآتية، سواء ما يتعلق منها باليوروبوند أو بمصالح اللبنانيين المباشرة، كملف المحروقات والأزمة التي تلوح في الأفق، واستيراد الأدوية وودائع اللبنانيين المعلقة.
في لحظة الانهيار جاء انتشار فيروس كورونا، ليضيف الى المشهد المؤسساتي سلبيات أكثر حدّة. لأنه منذ اللحظة الأولى كشف العورات المؤسساتية الصحية الرسمية والخاصة، وأظهر بوضوح أكثر حجم الخفة التي تعاملت بها السلطات الرسمية مع حدث صحي عالمي بهذه الخطورة، فيما يخرج وزيران معنيان ليتحدثا عن السياحة الاستشفائية في لبنان، الذي غرق لسنوات في الترويج أيضاً لسياحة الطبابة التجميلية التي لا تنفع كثيراً في زمن الأوبئة. بعد أشهر من تسلط حاكم مصرف لبنان على الأموال المطلوبة لاستيراد المواد الطبية والمعدات الضرورية لمعالجة كثير من الأمراض والعمليات الجراحية ومناشدات المستشفيات والأطباء، لم تبادر أي جهة رسمية الى الضغط على رياض سلامة لتحرير الأموال المحتجزة، ليكتشف المسؤولون فجأة النقص الحاد في مستلزمات أجهزة التنفس والألبسة الواقية للجهاز الطبي والتمريضي، فيما القطاع التمريضي يشكو منذ سنوات الإهمال والإجحاف في حقه، من دون أي رفة جفن من المسؤولين، كما المستشفيات الحكومية المهملة والضائعة حقوق موظفيها. منذ أسابيع، والإنذارات تتوالى عن حجم خطر الوباء، لكن أركان الدولة غرقوا في متاهات اللعبة السياسية بين مؤيد ورافض لمنع الطيران من إيران وإيطاليا، على قاعدة 6 و6 مكرر. ولم يلتفت أي منهم الى كيفية استعداد الدول لمواجهة الوباء إن بإعلانها بدء تصنيع آلاف أجهزة التنفس أو توزيع الأقنعة مجاناً وخفض أسعار المطهرات، وإجراء الفحوصات الخاصة مجاناً، فيما تلاحق وزارة الاقتصاد صاحب مولد رفع سعر التعرفة الشهرية، وليس رافعي أسعار الأقنعة والأدوية المعقّمة تصاعدياً من دون أي رقابة.
حين تقول المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إن الوباء سيطاول ستين الى سبعين في المئة من الناس وتستجلب غضب الأوروبيين عليها، تكون ألمانيا قد رفعت جهوزيتها الى الحد الأقصى طبياً وأمنياً واجتماعياً. حتى إيطاليا التي تعثرت في طريقة احتوائها للمشكلة، وضعت أجهزتها الأمنية في حالة تأهب مع كامل لباسهم الخاص، واستنفرت كل طواقمها ومسشتفياتها وقسمتها قطاعات صحية جغرافياً، كما حال كل الدول المصابة. لكن السلطة في لبنان، لم تأخذ مما يحصل في أوروبا مثلاً إلا عنوان انتشار الوباء، فلم يستنفر القطاع الصحي الخاص، وهو الأكثر حضوراً في لبنان وفاعلية، والإفادة من أنظمة الرعاية والاستشفاء، إلا في الأيام الأخيرة، فضلاً عن الأخطاء التي حصلت فيه. لم تجر مساءلة أي جهات استشفائية خاصة دينية أو مدنية عن حجم فعاليتها وجهوزيتها، لاستيعاب انتشار الفيروس في كل المحافظات، وخصوصاً مع ظهور تقاعس وأخطاء لدى هذا القطاع. لم تتم مواجهة احتمالات تفشي الأمراض في الأجهزة الأمنية كافة، وخصوصاً تلك المعرّضة أكثر من غيرها، في ضوء يوميات لوجستية كتبادل القطع الحربية الفردية والأسرّة، وغيرها مما يعرفه العناصر الأمنية أكثر من غيرهم وتعرضهم لاحتمالات مرضية عالية. لم توضع خريطة طريق واضحة، غير تشكيل اللجان، لمعرفة كيفية استيراد المعدات والأدوية من أوروبا، حين تتوقف حركة الطيران إليها. وكيف يواجه لبنان حالة إغلاق شاملة مماثلة لإيطاليا أو مناطق صينية، وهو الغارق في أزمة مالية لا يستطيع معها الموظفون والعاطلون عن العمل تأمين أدنى مستلزمات حياتهم اليومية، فيما يتّكل على أجهزة المؤسسات التطوعية فقط التي ستجد نفسها عاجزة عاجلاً أو آجلاً عن تلبية كل الاحتمالات المتوقعة. لأن أزمة انتشار المرض لا تتعلق بقطاع صحي فحسب، بل بمنظومة متكاملة من القطاعات العسكرية والصناعية والتجارية والمصرفية، تحتاج الى استراتيجية شاملة لا تزال الدولة غائبة عنها.
صحيح أن خفة جزء من اللبنانيين والتعنت الديني لدى جزء آخر، والتعامل مع انتشار الفيروس بأبعاده السياسية، ساهم في التعمية على حجم الانهيار المؤسساتي. لكن مع مرور الوقت، يتكشف المزيد من الثُّغَر التي ستتضاعف مع الاحتمالات المترقبة لانتشار المرض كما يستدل عالمياً أسابيع عدة، وتضاف الى أشهر من التعثر المالي والاقتصادي، في مقابل غياب سلطة متماسكة لمعالجتها. أمس، كان مشهد بيروت يشبه أيام الحرب، مع فارق أساسي: خلال الحرب كانت الدولة لا تزال قائمة بمؤسساتها وماليّتها، الى جانب مؤسسات الدويلات الرديفة. أما اليوم، فشبه دولة على طريق الإفلاس والانهيار.