متأخّراً، يستفيق الحيّ المحيط بمستشفى بيروت الحكومي. لم تكن تلك «عادته»، قبل أن يُخصص المستشفى الواقع في «قلبه» لاحتضان المصابين بفيروس كورونا أو المحتمل إصابتهم به. فبعد إعلان وزارة الصحة العامة اعتماد «بيروت الحكومي» مركزاً وحيداً للكشف عن الإصابات بالفيروس المستجد، تغيّر وجه الحي. لم يعد يشبه ما كانه. كأنه صار وباء. خفّت حركة الناس، إلا من العابرين بسياراتهم والآتين إلى المستشفى أو الخارجين منه، وأصحاب العربات والمحال التجارية وسكان الجوار. لم يعد لآخرين غير أولئك مبّرر للوجود في تلك المنطقة. في الشوارع المحيطة بالمستشفى، يكاد الناس يتأثّرون بالشائعات أكثر من التأثّر بالعدوى نفسها. ومذ صارت هناك ثلاث إصابات مؤكدة بالفيروس وعشرات الحالات في الحجر الصحي، تغيّر كل شيء «حتى نحنا»، يقول محمد، صاحب عربة العصير، الواقف على الجهة المقابلة لمدخل المستشفى. صار الشاب أكثر حرصاً مما كان عليه قبل الكورونا. لم يعد يكتفي بوضع القفازات التي كان يستخدمها لعصر الفاكهة، بل زاد «العدّة» من غسول وكمامات. وهي صارت أشبه بعدة إلزامية لكل من هم في محيط المستشفى. صحيح أنه لم يشعر بالخوف منذ اللحظة الأولى، إلا أنه لا «يفوّت» الأخبار عن الفيروس، وخصوصاً «مؤتمرات وزير الصحة للاطلاع على آخر المستجدّات». لكثرة متابعته لتلك الأخبار، بات يعرف كيف ينتقل الفيروس من شخصٍ مصاب إلى آخر، وكيف «نقي أنفسنا منه ونواجهه». خيارات محمد في المواجهة هي صلب عمله هناك. فهو، اليوم، لم يعد يبيع الليمون، وإنما «الفيتامين سي»، لذلك كتب على «كرتونة» علّقها على عربته: «لا للكورونا قرّب وخود الدوا». لكن، حتى هذا لم يعد ينفع «بعد الكورونا». فنسبة البيع «خفّت 80% من دون مبالغة».
كلما زاد عدد الحالات المصابة بفيروس كورونا تمدّد الخوف في المنطقة

لا أحد أقدر على وصف المنطقة ما قبل الكورونا وما بعده سوى العاملين هناك من أصحاب محال تجارية ومقاهٍ وعربات. هذه المنطقة «لا تنام»، يقول العامل في الموقف القريب من المستشفى. لكن، «هيدا كان قبل ما تصير المستشفى فيها كورونا». يشير إلى الفرن والمقهى مقابل أحد الأبواب الرئيسية للمستشفى: «هذه القهوة كل النهار ما بتهدا وكانت بحدود الساعة الثامنة ليلاً تسكّر بالعالم. اليوم صار بتوصل الساعة 8 ما بتلاقي إلا الموظفين قاعدين على الكراسي».
الخوف في تلك المنطقة يتسرب كالعدوى. وكلما زادت الحالات المصابة تمدّد. يروي عامل في محل للخضر على زاوية الشارع أن «الحركة في الشارع بتروح وبتجي بحسب أوقات الذروة، ولكنها لم تعد كما كانت قبل». يعرف اليوم أن أكثر ما يخيف الناس هو «الفكرة»، فأن توجد في مكان فيه «مستشفى ينقل إليه المصابون بالفيروس» هو السبب. كما أن «وضع الكمامات له تأثيره». وهذه وحدها كفيلة بإثارة الهلع.
صحيح أن الحركة في الشارع لا تزال توحي بأنها عادية، ولكن ذلك بالنسبة الى من لا يقيمون في هذه الأحياء. أما السكان فبدأوا يلاحظون منذ «أزمة الكورونا» أنه لم تعد هناك ساعات ذروة. ما بقي مجرّد عبور اضطراري لسيارات الأجرة والمارّين أو زائري المرضى في المستشفى. حتى إن بعض البائعين هناك غيّروا وجهة عملهم، ومنهم هيثم، بائع الكعك المقيم منذ شهرين عند مدخل المستشفى «متل فرض الصلا»، إذ صار يمرّ في فترة الصباح قبل أن يتجه إلى مكانه الجديد عند جسر الكولا. سبب «النقلة» أنه لم يعد أحد يشتري منه «صارت الناس تخاف من الأكل هون»، وإن باع «فليس أكثر من ثلاث كعكات، ما يساوي 10% من نسبة ما كنت أبيعه في السابق». يشكو البائع من كورونا أكثر من شكواه من الوضع الاقتصادي، ففي عزّ الأزمة «كنت شيل 30 كعكة».
بغضّ النظر عن طريقة انتقال العدوى بالفيروس، إلا أن منطقة المستشفى استحالت، بفعل الخوف، منطقة موبوءة، يتجنّب الكثيرون المرور فيها إلا لأسباب ضرورية. خوف يراه آخرون، وهم قلّة، غير مبرّر، منطلقين من فكرة أن الفيروس لا ينتقل إلا عبر شخص مصاب. هم مطمئنون «حتى الآن»، كما يقول أحدهم. أما ما بعد الإصابة التالية، فـ«الله وحده يتدبّر أمرنا».