على وفرة الشكوك والاراء المتناقضة التي قيلت في جلسة اقرار موازنة 2020 امس، سواء بازاء جواز التئام مجلس النواب او مثول حكومة الرئيس حسان دياب امامه، الا ان انعقادها والمداولات التي رافقتها ونتائج التصويت ارسلت اكثر من اشارة ذات مغزى:اولاها، ان المشاركة فيها لم تقتصر على افرقاء اللون الواحد، وهم قوى 8 آذار، ولاّدة الحكومة الجديدة. بل حضرتها كتل من المفترض انها ستقاطع الجلسة كجزء لا يتجزأ من موقفها السلبي من الحكومة نفسها ورئيسها. مع ذلك اتى نواب من كتلتي المستقبل واللقاء الديموقراطي. الاولى غير ممثلة في الحكومة ومناوئة لها، والثانية ممثلة بخجل من خلال وزيرة الاعلام. زعيما الكتلتين الرئيس سعد الحريري والنائب السابق وليد جنبلاط قالا قبل ايام بمنح الحكومة الجديدة الفرصة للتحقق من افعالها، الا انهما تباينتا في التصويت: الاولى عارضت والثانية امتنعت، مع انهما كانتا ممثلتين في الحكومة التي اعدت الموازنة. مشهد يُرجح ان يتكرر في جلسة الثقة بالحكومة جراء تمايز موقفيهما وموقعيهما منها. بيد ان افضل ما فعلتاه تعزيز اكتمال النصاب القانوني ورفع رقمه، بعدما بدا ان جلسة الموازنة لم تكن امام امتحان اقرارها - وان بغالبية عادية يجيزها الدستور - بل اختبار انعقاد نصابها القانوني.
ثانيتها، بعدما تردد في اليومين المنصرمين ان كتلة المستقبل ستتغيب حتماً عن الجلسة، افضى قرارها قبيل انعقادها الى الحضور بعدما بلغ اليها ان دياب سيتبرأ من مشروع الموازنة، ويتنصل من مسؤولية حكومته عنه كونها لم تضعه ولم تطلع عليها ولم تبدِ رأياً فيه حتى. من ذلك اصرار بعض نواب الكتلة على احراج دياب لانتزاع اعترافه حيال موقفه من موازنة اعدتها حكومة سلفه. سارع دياب الى تأكيد تبنيه مشروع تحفظ عنه سلفاً. في اجتماعات لجنة البيان الوزاري السبت والاحد، كانت وجهة النظر الغالبة عدم حضور جلسة موازنة ليست حكومة دياب مَن صنعها ولا تدعم ارقامها، ناهيك بأن الحكومة نفسها لم تنل بعد ثقة البرلمان كي تتمكن من المثول امامه كما من استردادها. استقر الرأي على حضور دياب، مع تأكيد مسبق على انه لن يتدخل في مناقشات الموازنة، ولا اقتراح اي تعديل لها، كونه لا يريد تحمّل وزر وضعها. بيد انه - كرئيس للحكومة - ملزم في نهاية المطاف تطبيق بنودها وارتداء البذلة التي لم يخيطها. الواقع ان هذا التبني حاصل وحتمي، وهو الذي يبرر انعقاد جلسة مجلس النواب. من دونه لا طائل منها.
على نحو كهذا تصرّفت كتلة المستقبل، على ان حضور بعض نوابها يتوخى تسليف رئيس المجلس نبيه برّي هذا الموقف، بينما تصويتها ضد موازنة اعدتها حكومة زعيمها موجه تحديداً الى دياب.
بروفة الحريري وجنبلاط لجلسة الثقة


ثالثتها، ليست مفارقة مستغربة ان يحضر رئيس الحكومة وحده من سائر اعضائها الجلسة، كما لو انه يمثلهم، وهو كذلك. لم يكن متوقعاً ايضاً حضور هؤلاء جميعاً. في ما مضى شهد البرلمان حالاً مماثلة لحكومة في وضع مشابه لحكومة دياب، وهو تصريف الاعمال، سواء بعد استقالة حكومة او قبل نيل حكومة جديدة الثقة. في 21 ايار 1987، التأم مجلس النواب للتصويت على الغاء اتفاقين انقسم من حولهما اللبنانيون واداروا حروباً داخلية بسببهما هما اتفاق القاهرة (1969) واتفاق 17 ايار (1983). منذ مطلع ذلك الشهر، 4 ايار، استقال رئيس الحكومة رشيد كرامي، وانقطع عن ممارسة صلاحياته ما خلا تصريف الاعمال. مع ذلك اجتمع البرلمان للتصويت على الغاء الاتفاقين في حضور وزير واحد هو وزير الاعلام والداخلية (بالوكالة) جوزف سكاف، ممثلاً الحكومة برمتها في غياب رئيسها. تأكيد هذه السابقة حمل رئيس برّي على التمسك بعقد الجلسة في موعدها، رغم الاحتجاج الشعبي في المحيط، وفي حضور الحكومة - او مَن يمثلها وإن من دون رئيسها حتى - ما دامت القواعد الدستورية تسمح بانعقاد البرلمان في عقد استثنائي ناشىء عن استقالة الحكومة، وما دام في وسع حكومة تصريف الاعمال المشاركة في جلسة تقضي الظروف الاستثنائية بتحملها مسؤوليتها الدستورية حيال قانون مقيّد بمهل، هي بدورها ملزمة دستورياً. وهو ما فعله دياب.
رابعتها، يمثل اقرار الموازنة من ضمن المهلة الدستورية، وإن بارقام اضحت وهمية غير ذات جدوى وصدقية، ولا تعكس الوضع المالي للخزينة اللبنانية، رسالة ايجابية الى الخارج تعكس اصرار حكومة دياب - كما البرلمان - على التقيد بالاستحقاقات وتجنب اجراءات اكثر اضراراً. تعذر اقرار الموازنة حتى 31 كانون الثاني سيعني منذ الغداة الانفاق على القاعدة الاثنتي عشرية تبعاً لارقام موازنة 2019، وهي اكثر تضخماً من الموازنة الحالية في الانفاق، اضف انها باب على استمرار الاهدار. اذذاك تمسي الرسالة سلبية للغاية. تصويت البارحة بدا يفتح نافذة صغيرة على الاقل حيال ما ينادي به المجتمع الدولي لمساعدة لبنان على الخروج من مأزق التدهور والانهيار.