منذ ما قبل استقالة الرئيس سعد الحريري، ثمة تباين بين نظرة حزب الله ونظرة التيار الوطني الحر في مقاربة المشكلة الداخلية المتأتية عن التظاهرات التي بدأت في 17 تشرين الأول. ومع عملية اغتيال الولايات المتحدة الأميركية قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني الفريق قاسم سليماني، والاحتمالات التي تفتح عليها المنطقة، يبدو التباين أكثر وضوحاً في كيفية استخلاص العبر اللبنانية، بما هو أبعد من بيان وزارة الخارجية حول عملية الاغتيال.ظهر هذا التباين أكثر من مرة في التعامل مع الحدث الميداني، وتأثيراته على حكومة الرئيس سعد الحريري، ومن ثم في مفاوضات التأليف واختيار بدلاء له، وصولاً الى تراجع الحريري عن رغبته في العودة مجدداً، ومن ثم تكليف الدكتور حسان دياب تأليف الحكومة. مع بدء مفاوضات التأليف، تعثرت الأمور مجدداً، الى حين وقعت عملية الاغتيال في بغداد.
يختصر التباين بين موقف الطرفين بأن حزب الله ينظر منذ 17 تشرين الأول الى المشهد الداخلي في صور مكبرة، في حين ينظر التيار الوطني إليه بأصغر عدسة ممكنة. الحزب تعامل مع الحريري على قاعدة منع إحياء التوتر السني الشيعي، ولا سيما مع بدء إشارات تحرك الشارع السني، لذا سعى الى منع استقالة الحريري ومن ثم الى إقناعه بالعودة إلى رئاسة الحكومة مجدداً، وتقديم تسهيلات له، وصولاً الى كسب الوقت حين توالى تقديم أسماء مرشحين سنّة. يقول أحد حلفاء الحريري إن خطأ الأخير يكمن في أنه لم يقدم على خطوة العودة ولو لم يسمّه الطرفان المسيحيان. كان مطلعون على مواقف الحزب يرددون منذ ما بعد استقالة الحريري أن الحزب يريد حكومة سياسية جامعة تضم كل القوى السياسية، بمن فيهم القوات اللبنانية. وحين تعذر ذلك، كان واضحاً انحيازه الى عدم تأليف حكومة جديدة في المدى المنظور، مهما كان اسم الشخصية التي تكلف تشكيلها. لأن الحكومة الحالية مع كل سلبياتها وعدم قدرتها إلا على تصريف الأعمال، تشكل عنصر أمان أكثر من أي حكومة جديدة، بين ضغط الشارع والأحداث الإقليمية. اغتيال سليماني عزّز هذا الاتجاه، ليس لدى الحزب وحده، بل لدى أكثر من مرجعية سياسية تحدثت منذ لحظة الاغتيال عن مغزى وجود حكومة اختصاصيين في مرحلة سياسية خطرة محلياً بالمعنى الاقتصادي والأمني، وإقليمياً بمعنى استحقاقات المنطقة.
لا يعني ذلك أن الحزب حرق أوراق الجميع من مرشحين حكوميين أو وزراء، بل إنه كان واضحاً لحلفائه أنه يتريث الى الحد الأقصى في إشاعة أجواء تفاؤلية أو الدخول في مفاوضات أسماء مرشحين وتحديد مواعيد صدور التشكيلة الحكومية. كل الأسماء التي طرحت لممثلين عنه أو عن الرئيس نبيه بري كانت في إطار مفاوضات غير مباشرة بالحد الأدنى لا بالحد الأقصى. ما عدا ذلك، ساد الاتجاه الى التزام الحيطة في التعامل مع ملف حكومي على تباين فيه مع حليفه رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل.
التباين كان من خلال تعامل العهد ككل، رئاسة وتياراً، مع الانتفاضة الشعبية والمتظاهرين. ردود فعل رئيس الجمهورية ورئيس التيار والخطب المتلاحقة والظهور التلفزيوني المتكرر صب حصراً ضد المتظاهرين بلا أي محاولة لاستيعابهم. استقالة الحريري فتحت الباب أمام تحقيق هدفين، رغبة رئيس الجمهورية في إبعاد من أتعبه، وتسمية أحد لا يتعبه، لذا كان مسروراً بتسمية بديل نهائي من الحريري. الهدف الثاني، تعويم رئيس التيار بعد نكسات الأيام الأولى للتظاهرات. هناك مسؤولون في التيار يقولون إن الانتصار الأول حققه باسيل حين لم تسمّ القوات اللبنانية الحريري لرئاسة الحكومة. حينها فقط استعاد أنفاسه، وبدأ رحلة العودة الى الصف الأول، موحياً أن كل الخسائر السابقة يمكن أن تعوّض بحكومة له فيها الحصة الكبرى التي عوّل عليها بعد استقالة القوات من حكومة الحريري، مضافة الى حصته وحصة العهد. مفاوضات التيار مع الرئيس المكلف وحرق أسماء مرشحين موارنة، وتزكية أسماء مقربة من باسيل أثبتت أن لا شيء تغير في أداء التيار، وأن العهد يريد استكمال التوجه الحكومي كما قبل 17 تشرين الأول لا كما بعده. كان التيار منذ قرار تسمية دياب يريد التقاط الفرصة في وجه التظاهرات ليعود من الشباك بعدما حاولت التظاهرات إخراجه من الباب العريض.
التحوط بعد اغتيال سليماني هو بداية البدايات بالنسبة إلى حزب الله


حتى هذه المفاوضات، كان حزب الله لا يزال ينظر الى ما يجري بعين غير راضية. لم يرغب في إثارة فوضى إشكالية في علاقته الاستراتيجية مع التيار، لكن لا هو ولا الرئيس نبيه بري كانا راضيين عن مسار التفاوض الذي سلكه التيار مع الرئيس المكلف أو المنحى الحكومي العام. رفض الحزب وبري أكثر من اسم طرحه التيار، ورفضا تمسكه بأسماء وزارية من الحكومة الحالية، كما أداء التيار في المفاوضات ونظرته الى الحكومة من زاوية أنها انتصار له وحده دون غيره من القوى السياسية، بوجه تكنوقراطي لفريق سياسي خالص يأتمر به وحده.
مع اغتيال سليماني، تغيرت المعادلة. ترف اللعب والمفاوضات بلا طائل انتهى، بالنسبة الى حزب الله، لكن التيار لم يلتقط بسرعة معنى الاغتيال وارتداده، وتداعياته محلياً، وظلّ مصرّاً على الخوض في الملف الحكومي وكأن عقارب الساعة لم تتوقف لدى الحزب في بغداد، إلا حين وصلت الرسالة واضحة من الحزب. صحيح أن حزب الله يريد تحييد الساحة اللبنانية، وأن المشكلة اليوم ليست سنّية شيعية، لكن الحزب أيضاً يدرك أن أي تفاعلات إقليمية ليس بإمكان أحد أن يتكهّن نهايتها الحتمية وإمكان ارتدادها في لبنان. لذلك، فإن التحوط هو بداية البدايات بالنسبة إليه. وهذا لا يمكن أن يحصل إلا عن طريقتين: إما حكومة سياسية جامعة، وإما حكومة تصريف أعمال. هناك كلام عن أن الحزب أعطى ضوءاً أخضر لدياب لإكمال مساعيه كرئيس مكلف من دون عراقيل من التيار وأنه لا يمكن أن يتراجع عن قبوله بحكومة تكنوقراط صافية، في مقابل إشارات حاسمة لحليفه بتخفيف شروطه وشروطه المضادة. لكن الحزب يريد مزيداً من الوقت قبل أن تنضج ظروف الخيارات الأخيرة. مستعجل كل من يحدد مواعيد صدور مراسيم التشكيل، قبل أن تختمر لدى حزب الله ملامح مرحلة ما بعد الاغتيال.