لا يزال الدائنون على رأس أولويات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. كل ما يسعى إليه هو أن ينال رضاهم، سواء كانوا مصارف أم صناديق استثمارية أو أي شركة محلية وخارجية. لذا قدّم لهم عرضاً، الاثنين الماضي، للقيام بعملية استبدال تشمل حصوله على سندات يوروبوندز محمولة منهم تستحق في آذار ونيسان وحزيران 2020، مقابل منحهم سندات طويلة الأجل من محفظته. لم يفصح عن سعر الاستبدال لكل شريحة من السندات، لكن الواضح أنه سيتخلّى عن السندات التي حصل عليها من وزارة المال أخيراً بفائدة 11.5% و12% وتستحق في 2029 و2035 (قيمتها الإجمالية 3 مليارات دولار)، ما يعني أن حاملي هذه السندات الطويلة الأجل سيحصلون على أرباح أكبر ناتجة من فوائدها المرتفعة، فيما سيضمن سلامة بعد حصوله على السندات القصيرة الأجل ألا يطالب اي أجنبي بتسديد قيمتها خارج لبنان فتسبب نزفاً إضافياً في احتياطاته بالعملات الأجنبية. في المحصّلة، يتسنّى لرياض سلامة ممارسة لعبته المفضلة: شراء المزيد من الوقت.
(هيثم الموسوي)

هنا، أيضاً، ليس مهماً من يدفع كلفة هذا الوقت. فهو لا يكترث للمودعين الذين تحتجز المصارف أموالهم ومدّخراتهم بالتنسيق معه، ولا يهمه أن من يدفع كلفة انخفاض قيمة الليرة في السوق الموازية هم أجراء القطاعين العام والخاص الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة، و«آخر همّه» أن يكون هناك ركود تضخّمي قاتل لما تبقى من نشاطات اقتصادية ذات قيمة مضافة في لبنان وللطبقتين الفقيرة والوسطى... هو أصلاً سخّر مقدرات لبنان وأموال المغتربين لخدمة هذا الدين، وهو اليوم يعرض عليهم أن يغرفوا المزيد من المال العام خلافاً لكل الآراء والمواقف التي تنصح بأن يتوقف لبنان عن سداد الدين. سلوك سلامة يشي بأن أولوياته لم تتبدل: سحق الطبقات الفقيرة والوسطى وحماية مصالح الدائنين.
عرض سلامة جاء يوم الاثنين الماضي في اللقاء الشهري الذي عقده مع مجلس إدارة جمعية المصارف. ما قاله في اللقاء يشير إلى أنه لا يزال يتمسّك بالقيود التي فرضتها المصارف بشكل استنسابي على ودائع الزبائن، وأنه يرفض تنفيذ عملية إعادة هيكلة للدين العام رغم كل النصائح التي تلقاها بضرورة التوقف عن سداد الديون والبدء بإجراءات التفاوض مع الدائنين على نسبة الاقتطاع من السندات... طبعاً هذا الأمر لا يقع ضمن صلاحياته، إلا أن سلامة بوصفه يهيمن على القرار المالي في لبنان، هو المسؤول الأول عن هذا الملف.
على أي حال، دفع الحاكم المصارف للقيام بعملية استبدال السندات واعداً إياها بالأمان وبتحمل الخسائر عنها، سواء أجريت عملية إعادة جدولة الدين أو لم تتم: «هكذا عملية، تحول من دون إعادة جدولة ممكنة الحدوث قد يترتّب عنها خسائر على المصارف، وفي حال انتفت الحاجة لإعادة الجدولة نجري عملية الاستبدال معكوسة». المصارف وصناديق الاستثمار ستكون رابحة على الجهتين!
عرض الحاكم على المصارف استبدال سندات يوروبوندز قصيرة الأجل بأخرى يحملها طويلة الأجل


وكعادته، لم يكتف سلامة بتقديم هدية واحدة للمصارف التي يقال إنها خذلته في الأزمة الأخيرة وهرّبت أموالها إلى الخارج، فأعلمها بأن «هناك توجهاً لتعليق العمل بالتعميم المتعلق بتطبيق المعيار المحاسبي الدولي IFRS9 بسبب الظروف الاستثنائية، وأن مشروعاً في هذا الإطار أعدّته لجنة الرقابة على المصارف وسيأخذه مراقبو الحسابات في الاعتبار نظراً لصدور عن الـ Regulators مع تسجيلهم ما يعرف بالـ Disclaimer». وهذه العبارة الأخيرة تعني أن مدققي الحسابات لن يسجّلوا في التقارير المتعلقة بحسابات المصارف أنهم موافقون على دقة الحسابات، ما يمكن أن يكون سببه عدم تمكينهم من الاطلاع على الحسابات أو تطبيق كل إجراءات الرقابة وسواها من عمليات الامتناع التي قد يمارسها المصرف لإعاقة عملية التدقيق (يمكن الاطلاع على معنى Disclaimer على الرابط الآتي: https://www.accountingtools.com/articles/2018/2/16/disclaimer-of-opinion).
ولم يعف سلامة نفسه من تحليل نتائج سياساته النقدية، إذ اشار إلى أن «لبنان يتجّه إلى اقتصاد نقدي»، مشيراً إلى أن السحوبات الورقية من مصرف لبنان بلغت في فترة الأعياد 130 مليار ليرة يومياً في مقابل 50 ملياراً في الفترة الماضية، كما أن المبالغ النقدية المسحوبة لا تعود إلى صناديق مصرف لبنان بل تذهب إلى التخزين بعملة التحويل وليس بالليرة. ما يقوله سلامة إن الناس تسحب جزءاً من مدخراتها وتشتري دولارات تخزّنها في المنازل تحسباً لانخفاض أكبر في سعر صرف الليرة تجاه الدولار.
وبرّر سلامة صدور التعميم الأخير الذي يلزم شركات تحويل الاموال بدفع قيمة التحويلات للمواطنين بعملة التحويل، بأن تحويلات المغتربين في الخارج صارت تأتي مباشرة إلى اسرهم وليس عبر المصارف. وأوضح أنه يعمل على مسألة تمويل المستوردين والتجار من خلال فتح اعتمادات، لافتاً إلى أنه تواصل بهذا الشأن مع «المصارف المراسلة ومع بعض المؤسسات الدولية لضمان الاستيراد للسلع الأساسية، لكن لم يحصل على جواب قاطع بعد»، بحسب ما ورد في المحضر.



تحويلات السياسيين: سلامة يَعِد بنشر الأرقام!
النقاش الذي دار في اللقاء الشهري بين الحاكم رياض سلامة والمصارف، يشي بأن سلامة كان «يضحك» على النواب الذين ليس لديهم المعرفة القانونية أو الكفاءة لمساءلته، أو أنهم كانوا متفقين على مسرحية هزلية تخلص بتصريحات عن متابعة التحويلات المالية العائدة لسياسيين إلى خارج لبنان. ففي اللقاء، أوضح سلامة الآتي: «إن هيئة التحقيق الخاصة لم تتلقّ من الخارج، من المصارف التي تلقّت التحويلات، أي مراجعة، ذلك أن واجبها معرفة أصحابها ومصدر هذه الأموال. كما أن مسؤولي الامتثال في المصارف لم يبلغوا عن أي حركات أموال غير طبيعية لهيئة التحقيق الخاصة. مصرف لبنان سينشر المعطيات والأرقام وتظهر عندها الحقيقة».
وما يعزّز هذا الاستنتاج أن بعض النواب طالبوا سلامة بالضغط على المصارف لتحويل أموالها من الخارج، لكنه أوضح أمام المصرفيين الآتي: «هناك حسابات المصارف لدى المصارف المراسلة يقابلها التزامات على المصارف اللبنانية، وهي مربوطة باعتمادات مستندية لتمويل التجارة الخارجية كما سبق وأوضحه في لجنة المال والموازنة».


مقدمات نقدية في رأس المال
في بداية اللقاء، أثار الحاكم رياض سلامة موضوع تطبيق التعميم الوسيط الرقم 532 الصادر بتاريخ 4/11/2019 الذي يفرض على المصارف زيادة رأس المال عن طريق المقدمات النقدية بالدولار الأميركي. وأشار سلامة إلى أن معظم المصارف أبلغته خطط التزامها، وأن على المصارف الأخرى المسارعة إلى ذلك «لأن عدم الالتزام غير مقبول». وبحسب المعطيات المنشورة، فإن الجمعية العمومية لبنك انتركونتيننتال وافقت بتاريخ 27 كانون الأول 2019 على ضخّ المقدمات النقدية، وكذلك وافقت الجمعية العمومية لبنك بيبلوس على ضخّ 135 مليون دولار، فيما أعلن بنك الاعتماد اللبناني إنجاز هذه العملية. ودعا بلوم بنك إلى عقد جمعية عمومية في 14 كانون الثاني 2020 للموافقة على قرار مجلس الإدارة المتعلق بالمقدمات النقدية تطبيقاً للتعميم، وبنك بيمو أيضاً دعا إلى جمعية عمومية بهذا الخصوص أيضاً.