هل اقدم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على قلب الطاولة على نفسه في حواره التلفزيوني، وهو نفسه قال ان مستقبله السياسي لم يعد امامه. الرجل الذي اختلفت حوله الاراء، بدا كأنه يطيح التهدئة التي عمل عليها منذ بداية الحراك الشعبي. فهل كان يكفي اعتذار رئيس الجمهورية وتراجعه عما قاله ليسحب التوتر المتفاقم، ام انه كان يقصد كل كلمة قالها؟ لعله السؤال الاكثر تداولا امس، وسط قراءة موقفه في ميزان الربح والخسارة، لان هناك من يعتقد انه كان في غنى عن اطلالته، وقد تم استخدام كلامه لتحريض الشارع ضده.ما شهدته الطرق المؤدية الى القصر الجمهوري وجل الديب والذوق وبيروت، ومع توقع انضمام متظاهرين من كل المناطق لتشييع علاء ابو فخر، ليس ردا عاديا عليه، كموقف ارتجالي اعتاد اللبنانيون عليه حين كان لا يزال في الرابية. انما هو رد على مسار شهدته الحركة الشعبية حين ركزت تظاهرتها على استهداف السلطة ككل، مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، ولم تتعرض لشخصه الا باستهدافات محدودة. وهو، في المقابل، عمل لمرتين على محاولة استقطاب المتظاهرين في خطابين شهدا تهدئة واستيعابا منه لخطاب الشارع وتأكيده انسجامه مع الشعارات المرفوعة لمحاربة الفساد. كان رئيس الجمهورية مؤمنا ان الناس في الساحات كلها، سيستمعون اليه وانه قادر على ايصال صوته اليهم. حتى في تظاهرة التيار الوطني الحر في بعبدا، التي ناقضت كل التدابير الامنية التي اتخذت سابقا لمنع وصول المتظاهرين الى حرم القصر وطرقه، وبخلاف كلام باسيل، جاء كلام عون محاولة جامعة للمّ شمل الشارعين المتناقضين.
من هنا لم يفهم سر خطوة رئيس الجمهورية في توقيت لا يصب في صالحه، لا موقعا ولا رئيسًا بدأ نصف ولايته الثاني على وقع استحقاقات سياسية وامنية واقتصادية ترسم ظلا اسود على الجمهورية.
تحدث عون امام رأي عام محلي وعربي ودولي، وقدم صورة لم تصب في صالحه. وهذا خطأ يتحمل مسؤوليته كما فريقه السياسي والاعلامي الذي بادر الى توضيح عبارة مجتزأة متناسيا عبارات اخرى اكثر حدة، ففاقم ردة الفعل. وكلامه الذي اعاد تجييش الشارع، تزامن ايضا مع وصول الموفد الفرنسي السفير كريستوف فارنو الذي قام بجولة مسائية للاطلاع على الوضع في ساحات التظاهر قبل بدء لقاءاته الرسمية.
تحدث عون في لحظة كانت ترتسم فيها تهدئة سياسية على ضفتي الرئيس نبيه بري وحزب الله، والرئيس سعد الحريري. وهي من المرات النادرة التي يعمد بري الى سحب موضوع خلافي كالجلسة النيابية بما حملت من مشكلات، قبل ان تصل الامور الى حد الانفجار. سارع بري الى اطفاء الموضوع وتأجيله، تاركا المجال لاتصالات موازية على الخط الحكومي. في المقابل راح الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه الاخير، ولو بلهجة حادة، الى ملفات اساسية حول مستقبل علاقات لبنان الدولية، لكنه حيد بدوره ملف الحكومة. لان خط التهدئة كان جاريا بفعالية، ونقطته المحورية محاولة استقطاب الحريري اكثر فأكثر الى ملعب الطرفين. ورغم ان الاطار العام لحركة الحريري ظل محكوما بضغط خارجي لتشكيل حكومة تكنوقراط، الا ان ما توافر تحدث عن ليونة راهن عليها بري والحزب في استثمارها للانتقال الى مرحلة جدية من المفاوضات حول شكل الحكومة. النقطة المفصلية ان بري والحزب يريدان الحريري رئيسا للحكومة، لا سيما ان الحزب وخلافا لتوقعات خصومه، لم يبادر منذ اللحظة الاولى الى اي عمل ميداني يفهم منه استهدافا للحركة الشعبية، غير محاولات التحذير من استغلالها خارجيا، والعمل في الوقت نفسه على تنفيس الاحتقان السياسي قبل استقالة الحريري وبعدها لتشكيل حكومة منوعة. الا ان خطوة عون جاءت مفاجئة بتوقيتها ومضمونها مازجة بين استهداف الحريري والتصويب عليه بما فهم منه انه لا يحبذ عودته خلافا لرغبة بري والحزب، وهو امر ترك استياء لدى الطرفين، وتأجيجه للشارع مجددا.
على وقع استحقاق امني تمثل بحادثة الشويفات، ومن ثم حادثة جل الديب، ازداد الاحتقان في الشارع، وكرستا انقساما اعمق من قبل، بعدما تحول شعار المتظاهرين استهدافا للعهد ورئيس الجمهورية وحده دون اي مسؤول آخر. والاتصالات التي اجراها، عكست مزيجا من التهيب لما جرى وقلقا اقرب الى الخوف من حجم التدهور في الشارع، من دون التخلي علانية عن بعض ملامح المكابرة، خصوصا ان بعض المنظرين دعوا الى ترك حركة الشارع لمدة 24 ساعة «وستنتهي لوحدها»، وعودة المطالبة بنزول الجيش الى الشارع وفتح الطرق بالقوة. الا ان التقارير الامنية التي وردت من كل الاجهزة الرسمية وغير الرسمية، اعطت معلومات مغايرة تماما، ما اضطر البعض في القصر الجمهوري الى مراجعة حساباته السياسية والامنية. وبدا ذلك واضحا من خلال محاولة امتصاص النقمة والسماح بتظاهرة حاشدة على طريق القصر، بعكس ما جرى في اول ايام التظاهرات.