هذه الأيّام، إذا ما شاهدنا أحدهم يعتذر، مضروباً مكسوراً ذليلاً، وقد جرى تسجيل اللحظة، فليس علينا إلا أن نخشى وجود اعتذارات كثيرة لم تُسجّل. لم تصلنا. أصحابها الآن في مكان ما، وقد زواهم الخوف، يبكون ذلّهم مع أنفسهم. ما حال الشاب لؤي شبلي اليوم؟ رأينا صوراً ــ تسجيلات له، والقهر في عينيه، ثم قالوا إنّه في اليوم نفسه تعرّض لحادث سير، بعد الذلّ، ورقد في مستشفى. هذه واقعة حصلت. ليست إشاعة. لكثرة التسجيلات التي راجت، في الأيّام الأخيرة، لم نعد نعلم أيّ واحدة مِنها تعود لذاك الشاب. أحدهم يتلو فعل الندامة، وآخر يخرج الدم مِن فمه، وثالث يُجزّ شعره، ورابع وخامس... مَن هم هؤلاء؟ غالباً بلا أسماء. كائنات تُذلّ، تُنتهك، ثم ننسى. لولا حادث السير لكان شبلي ظلّ رقماً. ابن حارة صيدا، الذي ارتكب جرم التظاهر، جرم النيل مِن سلطة سرقت أحلامه، حطّمته، والآن لم يبقَ مِنه إلا لحمه... وهذا الآن يُسحق.في التحقيقات، ونحن في بلاد فيها تحقيقات طبعاً، لا يبدو أنّ حادث السير الذي تعرّض له مدبّر. حصل في مكان آخر بعيد عن مكان الإذلال. لعلّ الحادث صدفة، تحصل، ولعلّ الشاب كان يُفكّر في ما جرى عليه، فامتلأت عيناه دمعاً، فلم يُبصِر، فانقلبت السيارة. لعلّه فقد أعصابه، لحظة تذكّر، وأنّى له أن ينسى، فانفعل ثم فقد السيطرة فتدهور. لعلّ ولعلّ. وحده هو مَن سيحفظ في رأسه أشياء، تفاصيل، لن يبوح بها لأحد في حياته. وحده، ربّما، مَن ستُغيّره تلك اللحظة إلى الأبد. كيف تُصنَع الوحوش؟ هكذا تقريباً. كأن لا أحد في هذه البلاد يُريد أن يتعلّم، أنّ هذه الأساليب لا تنفع، وأنّها، حقّاً، وإن كانت تنفع أحياناً لبعض الوقت، فستعود وتظهر على شكل انفجار. لِمَ السكوت على ما يحصل؟ لِمَ يغيب الإعلام، حتّى الذي يرفع راية الانتفاضة هذه الأيّام، عن هذه الحكايات؟ لِمَ يقفز فوق ما يجري؟ في هذه المآسي تكمن كلّ الحكاية. مِنها يُمكن الانطلاق لتفسير المشهد الجاري الآن في الشوارع. هنا التحدّي. هنا لا بهلوانيّات واستعراضات وسلميّات. هنا «يكون البكاء وصرير الأسنان».
النيابة العامة في الجنوب فتحت محضراً بالحادثة، إثر شيوع خبرها، وأصدرت برقيات إلى الأجهزة الأمنيّة (استخبارات الجيش وفرع المعلومات والاستقصاء في قوى الأمن الداخلي)... لمعرفة هويّة المعتدين على شبلي. عرفوا اسم الشخص الرئيسي الذي كان وراء استدراج المعتدى عليه. توجّهت دوريّات إلى مكان إقامته، لكنها لم تعثر عليه، أصبح متوارياً عن الأنظار. صاحب الجرم لديه محل «كوافير» في حارة صيدا. المحلّ الآن مقفل. الناس هناك يعرفون ما جرى. لا أسرار تدوم بين «الأهل». البحث عنه ما زال قائماً تنفيذاً لبلاغ البحث والتحرّي، شاملاً الذين عاونوه. يرقد شبلي في المستشفى، بعدما وضع تحت المراقبة لمدّة 48 ساعة، وبانتظار خروجه سيكون لديه ما يقوله للقضاء. لا بدّ أن يكون لديه الكثير ليقوله. هل سيمنعه الخوف؟ ماذا عن الخوف؟
توارى المعتدون على شبلي عن الأنظار ويستمر البحث عنهم بموجب بلاغ البحث والتحرّي


ألم يُلاحِظ كلّ «الكبار» أنّ أحد أسباب انتفاضة الناس، في كلّ الساحات، إنّما هو الخوف؟ لم يترك الشبّان جداراً إلا وكتبوا عليه لعنهم للخوف. جيل لا يُريد أن يرث الخوف الذي ورثه آباؤهم وأجدادهم. لا يُريد هذه التركة. كأنّهم بدأوا يدركون أنّ في هذه المسألة تحديداً، في كسر الخوف، احتمال خلاصهم. هذا جيل مختلف. لا تحصل التحوّلات الاجتماعيّة العميقة بين ليلة وضحاها، حتماً، لكن مَن لا يرى ظهور تلك الإشارات الآن، لا يقرأها، لا يتعامل معها كحقيقة، سيكون عليه لاحقاً أن يدفع الثمن. ما الذي سيُجنى مِن إذلال شبلي، وآخرين نعلمهم ولا نعلمهم؟ وكيف سيحفظ التاريخ نكتة مقرفة بات لها اسمها: «قبل السحسوح، وبعده»؟ يحصل هذا في الجنوب! تلك البقعة التي شعّت على العالم عزّة نفس وكرامة، وقد نزف أهلها حتّى لا تنقص حبّة مِن ترابها، والآن علينا أن نصمت! يحصل هذا والناس ما زالت في الشوارع، فما بالنا لاحقاً، إن هدأت الحناجر؟ أيّ رسائل يُبعث بها إلى الناس؟ أجُنّ «العقلاء»؟ أليست هي «إنّما سبّ بسبّ، أو عفو عن ذنب»؟ هذا إن كان هنا أصلاً مِن ذنب.
كتب عبد الرحمن الكواكبي يوماً: «العوام هم قوَة المستبد وقوته، بهم يصول ويطول. يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم. يغري بعضهم ببعض فيفتخرون بسياسته. إذا أسرف في أموالهم يقولون كريم، وإذا قتل منهم ولم يمثّل بهم يعتبرونه رحيماً». اليوم، وبعد هذا العمر، هل سيكون علينا أن نستذكر «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»؟ ربّما لا تكون الصورة بتلك القتامة، ربّما نبالغ، ولكنّه هو الخوف مرّة أخرى. خوفنا مِن أن نكون أمام موجة ونيّات مبيّتة. في أدبيّات أسلافنا أنّ «المُلكَ قد يدوم مع العدل والكفر، ولا يدوم مع الظلم». أعلينا اليوم أن نذكّر بكل ذلك؟ أعلينا أن نستذكر الآية: «فأمّا الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض»... ما ينفع الناس!