مشهد قطع الطرقات يثير التساؤلات. بسببه، لم يعد التركيز منصبّاً على فساد السلطة، ولا على عدم مبالاتها في التعامل مع الانتفاضة الشعبية. السؤال صار: من الذي يقطع الطرقات؟ هل هم فعلاً الناس المنتفضون أم أحزاب من السلطة؟ كان لافتاً أمس أن أياً من المجموعات الفاعلة في وسط بيروت لم تكن هي من دعت إلى قطع الطرقات، وإن تجاوب كثر معها وراحوا يسوّقون لها. الدعوة انتشرت كالفطر، عبر مجموعات «واتساب»، حتى أصبحت العودة إلى مصدرها شبه مستحيلة. ما يُعرف أن الدعوة صارت أمراً واقعاً غذّاه اقتناع لدى بعض أهل الانتفاضة بأن لا حل سوى بمزيد من الضغط على أهل السلطة، الغارقين في تثبيت مصالحهم. هؤلاء ليس من بينهم «هيئة تنسيق الثورة»، التي تضمّ عشرات المجموعات. فالهيئة كانت منذ استقالة الحكومة، قد قررت «فتح كامل الطرقات كبادرة حسن نية، واحتفاءً بما تمّ إنجازه حتى الآن»، معطية السلطة مهلة تنتهي مساء اليوم لتقوم بخطوات تُظهر أنها بدأت تستمع إلى مطالب الناس. يصرّ من في الهيئة على فصل هذه المهلة عن مسألة التكليف. وقد قرروا أن يكون يوم الاربعاء يوم بدء التصعيد والتحرّك باتجاه مصالح السلطة من شركات ومصارف وغيرها.لكن في المقابل، لم يكن ذلك قرار الأغلبية. البعض وجد في تظاهرة العونيين إشارة سلبية من السلطة؛ فبدلاً من الاستماع إلى صوت الشارع، لجأت إلى خطوة «شارع مقابل شارع»، التي أعادت المنتفضين إلى الساحات بزخم أكبر، انتهى بقطع الطرقات التي اعتادوا قطعها.
يرفض عمر واكيم استسهال ربط قطع الطرقات بأحزاب السلطة، ولا سيما القوات والمستقبل والكتائب. يقول إن هؤلاء لا شك يسعون إلى تنفيذ أجندتهم، لكنه يعتبر أن تأثيرهم في الشارع محدود، والناس، وهم في معظمهم مستقلون، قادرون على صدّ كل من يسعى إلى سرقة ثورتهم.
في الكتائب، ليس الموقف بعيداً. لا ينكر هؤلاء أن مناصريهم في الشارع أسوة بالمواطنين الآخرين، لكنهم يجزمون بأن لا أحد قادر على إدارة عملية بهذا الحجم. يذهب المصدر إلى الإشارة إلى أن الذين كانوا في جل الديب يفوق عددهم عدد الذين اقترعوا في المتن للكتائب والقوات معاً. ويضيف: لوجستياً، قد يكون للقوات أو الكتائب مصلحة في قطع الطريق عند نهر الموت أو عند انطلياس، لكن الناس اختاروا جلّ الديب.
أحد الناشطين في جل الديب يذهب إلى الإشارة إلى أن أحزاب السلطة لم تفهم أن انتفاضة الناس هي حالة غير كلاسيكية، وبالتالي من الخطأ التعامل معها بالطرق الكلاسيكية، كأن يُحكى عن غرفة عمليات تدير الشارع. ليضيف: من يدير الشارع فعلاً هو حالة القرف التي وصل إليها الناس، والتي تبقيهم في الشارع لأنه لم يبق لديهم شيء ليخسروه.
يستشهد أصحاب هذا الرأي بيوم نزول إليسا إلى الشارع، واستقبالها بهتاف: «سمير جعجع حرامي». يسترجع أحد الناشطين صورة ذلك الشاب الذي أجريت معه مقابلة في ساحة رياض الصلح، قال فيها «أنا مع الحريري»، رافضاً أن يكون زعيمه كبش فداء، فخرج من يقول بين التلفزيونات أن رياض الصلح مع الحريري، فيما جميع من في الساحة يدرك أن المعتصمين هناك هم الأشد عداءً للحريرية التي مهدت لوصول الوضع إلى ما وصل إليه.
جورج نادر، ممثلاً العسكريين المتقاعدين، يعتبر قطع الطرقات وسيلة من وسائل الضغط على السلطة. ولذلك، هو يؤيّد هذه التحركات، مبدياً اقتناعه بأن الأحزاب ليست هي من تتحكم في المشهد، وإن كان مناصروها يشاركون في التظاهرات، بل هم الناس بعيداً عن الرينغ الذي صار يشكّل عمقاً حيوياً للمعتصمين في البلد، إضافة إلى تحوله إلى رمز لمحاولات السلطة قمع المتظاهرين، فإن ثمة من يصرّ على أن قطع الطرقات في المناطق بدا منظّماً بدقة. يتفق أكثر من مصدر على أن البداية، بعد استقالة الحريري، كانت من البقاع الأوسط. ومن هناك انتقلت عملية قطع الطرقات إلى الناعمة والجية، مناطق نفوذ تيار المستقبل (نفى ذلك في بيان رسمي صدر أمس)، فيما ينتقل الاتهام إلى القوات عند الحديث عن قطع طريق جل الديب والزوق وجبيل والشيفروليه.
في الحراك من يتخطّى منطق «من يقود الشارع»، ليذهب إلى «من يستفيد منه». هؤلاء يعتبرون أن القوات والمستقبل والاشتراكي بشكل أقل، يفاوضون بالشارع، فيما الجيش يقف على الحياد. ويضيفون: حتى لو كان الناس المقهورون هم الذين يقومون بقطع الطرقات وشل البلد، إلا أن ذلك لا يلغي أن من له قدرة على الاستثمار السياسي هو الأحزاب التي تملك القدرة على التحرك السريع. يبقى دور الجيش مثار تساؤل كبير. هل فعلاً ينطلق من مبدأ عدم التعرض للمتظاهرين، أم أنه يتحول في أحيان كثيرة إلى شريك في قطع الطرقات، من خلال عدم فتحه أي طريق حتى لو كان من أغلقها ثلاثة شبان فقط؟
ناشطون يتخطّون «من يقود الشارع» بحثاً عن «من يستفيد منه»


ليس كل من في الشارع رافضاً لقطع الطرقات، بوصفه وسيلة ناجعة للتعبير عن الرأي. لكن بعضهم يعتبر أنه لا يمكن قطع الطرقات إلى ما لا نهاية. ولذلك يُفترض أن تكون هذه الخطوة مرتبطة بهدف أو مطلب محدد. فإذا كان المطلب إسقاط الحكومة، فقد سقطت. لكن ماذا بعد؟ هل من مصلحة أحد أن يقول إن الهدف من قطع الطرقات هو التكليف؟ وماذا لو كُلّف الحريري، هل يكون قاطعو الطريق قد نفذوا غايتهم، أم يعترضون فيستمرون في قطع الطرقات وتأليب من يفترض أن يكونوا معهم عليهم؟ ثم، ما فائدة أن يتحول قطع الطرقات إلى قطع مذهبي أو طائفي تلجأ إليه أحزاب السلطة لفرض شروطها في التكليف والتأليف؟ أحد الناشطين يدعو، على سبيل المثال، إلى اللجوء إلى قطع الطرقات في حال أعيد تكليف الحريري تشكيل الحكومة، انطلاقاً من أن ذلك يشكل تجاهلاً لمطلب المنتفضين الرافضين لعودة أحزاب السلطة.
في خيمة إحدى المجموعات نقاش آخر: كان لا بد أن نستفيد من زخم يوم الأحد لزيادة الضغط على السلطة، لكن المحاولات المشبوهة للتصويب على حزب الله من بوابة الانتفاضة لا تسمح بالخوض كثيراً في لعبة قطع الطرقات. يقول أحد مسؤولي المجموعة إن إفراغ حمولة رمل في وسط الشارع عند مفرق برجا كانت رسالة خطيرة. متظاهرون أفراد لا يمكن أن يقوموا بفعل كهذا. لذلك علينا أن نسحب البساط من تحت المصطادين في الماء العكر والتركيز على مطالبنا. وتلك ليس من بينها نزع سلاح حزب الله ولا الدخول في الصراعات الإقليمية.
في المقابل، ثمة نقاش جديّ يدور في رياض الصلح تحديداً. هل المطلوب خروج المجموعات الوطنية من الشارع لأن القوات أو غيرها يسعى إلى مصادرة هذا الشارع؟ وهل هناك من يعرف أين يمكن أن يأخذ هؤلاء الناس في حال خلت الساحة لهم؟ خلاصة هؤلاء أن معادلة أننا «نتقاسم الساحة مع القوات ليست دقيقة، بل الأصح أننا نقف في وجهها، كما نقف في وجه كل وجوه السلطة».