ما بال ماركس لا يُريد أن يموت؟ شوهد في وسط بيروت، صباح أمس، ينفّذ سطواً ناعماً على مقرّ جمعيّة المصارف. ظهر في وجوه خضر أنور، كارين هلال، محمد نصولي، حسين صقر وسليم غضبان. إنّهم ماركسيّون - لينينيّون. هذه هي هويّتهم الأيديولوجيّة. يُعلنونها بعيون واثقة. وقبل أربعة أيّام، في ذروة الكآبة التي طوّقت عنق الانتفاضة الشعبيّة، كتب خضر مُغرّداً: «في هذه اللحظات التاريخيّة لا بدّ مِن علي شعيب آخر أو باسل الأعرج». علي شعيب مرّة أخرى؟ يا علي، مَن ينسى... «كيف يغوص الفلاحون في تربة خوفهم كالخلد». هناك مَن لا يزال يؤمن بهذه الأشياء؟ نعم، وها هم يفعلون، وها هي الانتفاضة تُظهر ما كان يظنّه البعض قد أصبح مِن الماضي. هذا للانتفاضة لا عليها. شيء ما، مِن ذاك النَّفَس، يتحرّك حاليّاً في أكثر مِن بقعة في الكوكب. قُتِل علي، قُتِل باسل، لكنّ خضر ورفاقه لم يُقتلوا. نجوا أمس. ألم يكن الموت، كاحتمال، في بالهم؟ بلى، لكن «في تلك اللحظات، الثواني الأخيرة قبل التنفيذ التي تسأل عنها، لا لم نشعر بتردّد، لا خوف، إنّما حماس واندفاع. لا عودة إلى الوراء». خمستهم، مع رفاق آخرين، تكتّلوا قبل أربع سنوات في تجمّع أطلقوا عليه تسمية «الحركة الشبابيّة للتغيير». عرفوها كالآتي: «منظّمة شبابيّة يساريّة تقدّميّة، تنطلق مِن رؤية علميّة للواقع في سعيها لبناء مشروع التغيير».ما الذي أرادوا تحقيقه؟ بداية، وبالإذن مِن «السلميّة» وما شاكل، إنّهم يؤمنون بالعنف وسيلة في لحظة ما: «كلّ عنف رجعي يجب أن يُقابله عنف ثوري». نسّقوا ما فعلوه أمس جيّداً. بينما دخلوا المبنى، وقيّدوا البوابة الحديديّة بجنزير قفل رموا بمفتاحه بعيداً، كان خضر أنور يظهر في فيديّو سُجّل سابقاً. أحد ما نشره على صفحة الحركة الإلكترونيّة، وها هو الشاب، بوجهه المُتعب وصوته المبحوح، يُعلن المطالب: «استرداد الأموال التي نهبتها المصارف مِن خلال الهندسات الماليّة، واسترجاع كلّ الأرباح والفوائد الخياليّة وغير المشروعة... هذه نتيجة لتحالف السُّلطة السياسيّة مع رأس المال». ذهبوا أبعد مِن ذلك، ذهبوا إلى حيث لا يجرؤ أحد، إلى حيث ما هو خيال عند كثيرين: «تحرير اقتصادنا مِن الدولار، أن يكون التعامل الداخلي بعملتنا الوطنيّة، كذلك تجب إعادة هيكلة القروض الشخصيّة والسكنيّة لأصحاب الدخل المحدود والفقراء... مِن غير المقبول أن يدفع الفقراء ثمن أزماتكم (تحالف السُّلطة السياسيّة ورأس المال) وسياساتكم الفاشلة». لم تشعر المجموعة بالخجل، في البيان، مِن استخدام مصطلح «الحقد الطبقي». كأنّهم تعمّدوا عدم المجاملة، عدم الدبلوماسيّة، فعلوها فجّة صريحة. كانوا يطلقون المفردة أيضاً أثناء اعتصامهم داخل المبنى، ولاحقاً بانتظار إطلاق سراح رفيقهم، هكذا: «طبقيّة طبقيّة، معركتنا طبقيّة». بالنسبة إليهم، ذاك التكسير والتحطيم، الذي شهدته الانتفاضة في بدايتها، إنّما هو تعبير عن «الحقد الطبقي». لعلّ أهم ما في البيان، وما قاله الشاب الثلاثيني، أنّ ما قاموا به «ليس سوى البداية، سنمضي سنمضي إلى ما نُريد... وطن حرّ وشعب سعيد».
بالمناسبة، ما أنجزته هذه المجموعة أمس، كانت مجموعات أخرى، مِن ميول متنوّعة، تنوي القيام به وربّما بعنف أكثر حدّة. في ساحات الاعتصام، وعلى مدى الأيّام الماضية، سمعنا عن ذلك كثيراً. هناك مَن خطّط، وهناك مَن نوى، وهناك مَن سوف يحمّسه ما جرى أمس ويدفع به إلى التنفيذ. تُدرك مجموعة «الحركة الشبابيّة للتغيير» ذلك، وليس ذلك إلا أحد أهدافهم أصلاً، إذ «نعلم بوجود الحقد الطبقي، نراه ونلمسه مِن حين إلى آخر، ولكنّه غير ظاهر دائماً، دورنا الآن تحريكه. أن يُصبح وعيّاً، عندها سينطلق وحده، سيُحدِث فرقاً». يُريد خضر أن يتخلّص مِن سطوة المصارف، فهي التي «صنعت اقتصادنا الريعي وصرنا نُعاني». الشاب مسرحي في إحدى الفرق، وطالب جامعي، ويعمل «بارتندر». رفاقه جامعيون كذلك. أحدهم يعمل في أحد الأفران الشهيرة. كارين، الفتاة التي لم تهدأ، طوال يوم أمس، كانت كلّما جلست لدقائق عادت ووقفت لتهتف. ما بال حنجرتها لا تتعب؟ بلى، إنّها تتعب، لكنّها مُصمّمة. كان الحماس يطير منها في ذلك المبنى صباحاً، وعندما أوقفتها القوى الأمنيّة كانت تهتف ضدّ المصارف، وعندما أُفرج عنها ظلّت تصرخ... ثم توجّهت إلى ساحة رياض الصلح، ليلاً، لمتابعة الهُتاف. إصرار هذه المجموعة لافت. لا يُنصح أحد بالظنّ أن في الأمر ما يُضحِك. بيان قوى الأمن، ليل أمس، أفاد أنّ الشاب الخامس، الذي ظلّ خارج المبنى المُستهدف ولم يدخل مع رفاقه، لم يستطع أن يظلّ صامتاً أثناء نقلهم بسيارة «البوكس». اسمه سليم غضبان. غضب كثيراً. بادر أحد عناصر قوى الأمن بلكمة، بحسب البيان، ما أدّى إلى إيذائه وتعطيله عن العمل لمدّة يومين. أيّ لكمة هذه؟ إنّها مِن موجوع بشدّة.
هم ماركسيّون - لينينيّون يؤمنون بالعنف الثوري... ويُريدون إسقاط حكم المصرف

على مَن يهمهم الأمر أن يدرسوا ذلك، أن يُفسّروا ما خلفها، غضب وتصميم وجرأة. العوامل اكتملت. في وسط بيروت، لم يحصل أن استخدم الجيش والقوى الأمنيّة العنف المفرط، وربّما أيّ عنف، إلا مرتين منذ بداية الانتفاضة. الأولى كانت عندما نزل الجيش بقوة، في اليوم الثاني، لحظة التعرّض لواجهة مصرف «الموارد» مباشرة، فيما المرّة الثانيّة كانت أمس، عند التعرّض لمبنى جمعيّة المصارف. لقد هشّموا وجه الشاب، غضبان، ونقلوه ليلاً إلى المستشفى بعد اعتصام المتضامنين أمام مقرّ ثكنة الحلو في مار الياس. تمنّع النائب العام لدى محكمة التمييز أن يأمر بتركه. هذه هي، لا تقتربوا مِن المصارف فلا نقترب مِنكم، كأنّ هذه هي المعادلة التي يُراد تثبيتها. أبنية أخرى حُرقت، في البداية، وكان الأمر عند الأمن ضمن «العادي». اهتفوا ما شئتم، سبّوا ما شئتم، لكن إيّاكم المصارف. لا يفوت المجموعة الماركسيّة أن تذكرنا، أثناء الحديث معهم، أنّهم يساريّون يطلبون «العدالة الاجتماعيّة والتحرّر الوطني». مسألة العداء لإسرائيل، للاحتلال، للاستعمار، للرأسمالية والإمبرياليّة... هي تحصيل حاصل عندهم. نصيحة، لا تُبادر إلى نقاش مع ماركسي ما لم تكن في مزاج يخوّلك أن تسمع كثيراً. نُصارح الشاب بذلك، فيضحك.
لمجموعة الخمسة صديق، ليس معهم في الحركة إيّاها، ولكنّ هواه مِن هواهم. يعرفهم منذ سنوات. إلى الآن هم لا يعلمون أنّه هو مَن بادر، في يوم الانتفاضة الثاني، إلى تحطيم واجهة ذاك المصرف في وسط بيروت. فعلها الشاب عفواً، بعدما رأى غضب الغاضبين، فدلّهم إلى حيث «الهدف» على بعد أمتار مِنهم... وكان أوّل مَن ضرب. اكتشفنا صداقتهم صدفة. هناك رفيق آخر فعلها مع مصرف آخر. هناك «شبح، مِن نوع ما، ينتاب لبنان».