ارتجفت السلطة لما رأت الجموع وقد «كسرت» الترسيمات الطائفية والمناطقية التي اجتهدت في صنعها ومنعت تجاوزها. وهال أطرافها المتربّحين من النموذج اللصوصي القائم أن الكسر المفاجئ، زماناً وجغرافياً، قد ترافق مع معالم أولية لانتظام شبه طبقي لم تتوقعه حتى في أسوأ كوابيسها. إذ أن أنها افترضت، بنتيجة تغوّلها المديد والسافر، وقصر نظرها البنيوي، أنها ومن خلال هندستها السياسية والاجتماعية العنيفة التي مارستها على امتداد السنوات الثلاثين الماضية (عمر النموذج)، قضت على احتمال إعادة الانتظام الطبقي قضاء مبرماً.البعد شبه الطبقي الذي طبع أيام الحراك الأولى وظلّل فعالياته، هو ما أخاف منظومة النهب وأربكها. فأن يجتمع الناس، ومن مختلف المناطق، على مطالب لا لبس في هويتها الطبقية مسألة تبعث على الذعر والقلق، بل وتهدّد بخلط الأوراق. فإعادة الاعتبار إلى المسألة الاجتماعية من منظور طبقي صرف، وهنا يكمن جوهر الخوف، بعيداً عن «المسلّمات» السياسية والاجتماعية والثقافية المصاغة والمرعية طوائفياً، من شأنه أن يدفع، أو أقله يؤسّس، لاتجاهات جذرية عابرة وشاملة، ويهدّد بتقويض سياسات قاتلة وزعزعة مصالح راسخة، وأن يفتح الباب، إن عاجلاً أو آجلاً، أمام مساءلة ومحاسبة وإعادة نظر قد تسفر، لا محالة، عن الإطاحة بمجمل البنيان اللصوصي الذي أرسيت دعائمه، وصيغت طوابقه، مع وصول رفيق الحريري إلى السلطة. وقد نجح الرجل بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن رعاته الإقليميين والدوليين، في إقامة شبكته التي تولت مهمات تجويف الدولة وإفقار الناس والاستيلاء على ما يملكون وما لا يملكون. ولو لم تكن الأمور على هذه الدرجة من العمق البادي والجذرية المحتملة لما ترددت، على منوال ما تعلمت، في المبادرة إلى الاحتواء الذي درجت عليه في مواجهة ما ألفته وخبرته من أشكال الاعتراض السابقة.
المسألة بالنسبة للنموذج المهيمن ولأصحابه أبعد بكثير من احتجاج أو هبّة يمكن التعامل معها وفق الآليات المعروفة. الخطر، وهو هنا أكثر من جدّي، بالنسبة إليهم ينطوي على احتمالات، صارت ملموسة، تنذر بإعادة بعث المناخات المطلبية الواسعة التاريخية التي سبقت وقوع الحرب الأهلية اللبنانية. فيومها، وأمام الأخطار المحدقة بالنظام وبأركانه، اختار النظام، الذي جدّد نفسه مع «الحريرية السياسية»، فضّل جرّ البلد نحو أتون الحرب على القبول بإصلاحات السياسية طفيفة أو تنازلات اجتماعية بسيطة، والتي كان من شأن التسليم بها أن يجنّب البلد ويلات الحرب وأهوالها.
اليوم، وأمام التحديات التي تفرض نفسها على عموم الاجتماع اللبناني، ثمة من في السلطة، وليس كل من فيها السلطة (على ما يقوله الشعار الغبي والخبيث: «كلن يعني كلن» الذي ينطوي على رغبة التضليل والتعمية، تشويه أهداف الحراك ومنطلقاته، وأخذه باتجاهات مناقضة ومناهضة) من لم يتعلم ولا يريد أن يفعل. بل تراه، وبالرغم من تاريخية ومفصلية الحراك غير المسبوق، يتابع ما اعتاده من إنكار أبله وتجاهل مجرم. وزاد عليه اليوم ما هو أخطر: الخفّة والرعونة. وإلا ما معنى «الورقة الحريرية» المسماة بالإصلاحية، وما معنى «سيرك» الكشف عن سريّة الحسابات... وغيرها من الممارسات التي لا تقول شيئاً بإزاء الأزمة الكبيرة التي يواجهها البلد.
يجب على زمرة النهب المتوزعة في شرايين البلد السياسية والثقافية والإعلامية، أن تعي أن لبنان اليوم يعيش لحظة انفجار اجتماعي لم يعد ممكناً معالجته بالتسويات الفوقية، ولا بالمسكّنات الوهمية. إننا في قلب وضع على درجة عالية من الحراجة، وألاعيب وبهلوانيات رياض سلامة وشركائه وعرّابيه من رجال سياسة وإعلام باتت تثير الغثيان. والوضع الدقيق، هذا، يحتّم على من أوجد الأزمة وساهم في تفاقمها أن يكون أول من يتولّى تبعاتها. وأول موجبات التعبير عن مسؤوليته الإسراع في إعلان تخليه عن المكابرة التي صارت بلا معنى، وأن يسارع إلى الإقرار بالحلول الكفيلة بتجاوز ما نحن فيه بعيداً عن «اللصوصية». وإلا فإن الوضع مفتوح على الانهيار وعندها لن يبقى لهؤلاء الطفيليين ما يبتهجون به.
وإذا كان صمم السلطة عن المطالب مشكلة كبيرة وغير مفهومة فإن هناك ما هو أسوأ من صمم السلطة. إنه صمم المعنيين الحقيقيين بالحراك والحاجة إلى تثميره. وإذا ما نحينا أولئك الذين يحاولون خطف الحراك أو سرقته أو حتى تثميره في اتجاهات مضادة فإن صمت أصحاب المصلحة (أين الحزب الشيوعي؟) وتلكؤهم عن مهمة تصويب الأهداف وإنضاج الأفكار ورسم الآليات المؤدية إلى تحقيقها يرسم علامات استفهام باتت تفرض نفسها.
فعوضاً عن التجذير الفعلي يحلّ التجذير اللفظي وهو عين الخطر الذي يتكامل مع إنكار السلطة. والخطورة أن هذا النوع البائس من التجذير بات هو السمة «الحاضرة» في بعض الفعاليات. بل يبدو وكأنه التعويض عن هدف التجذير الفعلي. وإلا ما هو تفسير غياب البرامج الواضحة والمبوبة لوجع الناس وآلامها، وماذا عن المبالغات الانتصارية وإغراق الناس بالآمال الزائفة...
وإذا كان مفهوماً، في الأيام الأولى، أن تكون المبالغة في القدرات والآمال وما يتصل بهما شكلاً من أشكال التعبئة لحثّ الناس ودفعها للنزول إلى الشوارع فإن الأمر لم يعد كذلك. فاليوم وبعدما دخلنا الأسبوع الثاني باتت الأمور مختلفة وصارت المهام أعقد وتحتاج إلى دقّة في تعيين المسؤوليات ومعها المتربصين، وبرمجة واقعية للأهداف ومسؤولية في الحساب. أما الاكتفاء بالتجذير اللفظي، والاعتداد الفارغ بالأرقام، وتكرار العبارات الفارغة فمن شأنه أن يضعف من عزيمة الناس وإقبالهم وسيؤدي عما قريب إلى انفضاضهم التدريجي، وبالتالي الإطاحة بهذه الفرصة التاريخية التي ربما لن تتكرر.
وإذا كان مفهوماً أن الواقفين وراء هذا النوع التافه من التجذير، الذي يساهم الإعلام في مفاقمته، لا يقوون على الإتيان بما هو مخالف فالسؤال هو عن القوى ذات الرصيد النظري والعملي، والتي تبدو وكأنها في موقع المتفرج بإزاء حراك لا سابق له كماً ونوعاً وأهدافاً ومنطلقات. بل أن هذه القوى، وبدلاً من أن تبادر إلى نداء القيادة وتتصدّر الصفوف تتخلف عن هذا الدور الذي لا يملك أحد شرعية منافستها عليه. إن من شأن هذا القصور عن التصدّي للعب الدور التاريخي المنوط بقوى اليسار الحقيقي أن يترك الساحة، وهو الحاصل حتى اللحظة، لحفنة من المأزومين أخلاقياً وسياسياً من مرتزقة السفارات ومأجوري المجتمع المدني فضلاً عن إعلام المنظومة الناهبة إياها.
الحراك الذي امتلك قوة دفعه الذاتية قد انطلق من المعاناة الفعلية الشديدة الوطأة


إن ازدحام الأهداف وتداخلها من دون أدنى شروط التبويب هو مسؤولية القوى الممثلة لمصالح هذه الفئة العريضة من اللبنانيين وكل تأخر عن صوغها في برنامج عمل يساعد الحراك على تزخيم نفسه، ويرسم له أهدافه، يفتح الباب أمام المزيد من المغامرة التي تهدد بتضييع الموضوع وإعادتنا إلى الشرنقة ذاتها.
فالإصرار على المجهولية في تنظيم الحراك وقيادته يترك الباب مشرعاً أمام هذا وذاك من الأدعياء والطفيليين. إن وضوح الحراك ووضوح قادته وجذريتهم هو ما يمنحه التحصين اللازم. فمناورات السلطة وكذبها المفضوح وتجاهلها لما هو واضح وجلي من معاناة وإفقار وإذلال، يتطلب من الحراك وضوحاً وإعلان هوية وأسماء مؤهلة ذات صدقية ومصلحة فعلية في تجذير المواجهة. وقد وفّرت الأيام الماضية وزخم الحراك فرصة قد لا تتكرر لبلورة وتجذير الحراك وتحويله من غضبة وهبّة إلى برنامج عمل يستقطب ويؤطر. فالناس لم تنتفض إلا لسيطرة الغموض ولعجزها عن الفهم. لذا فإن الإرادة بالاستمرار تحتاج إلى حصانة وحماية من الدخلاء الذين يتكاثرون يوماً بعد آخر، وأن تبادر قوى اليسار الوطني إلى تنقية صفوف الحراك من أزلام المنظومة، وهذا ما يمكن لا يتوفر إلا من خلال الدفع باتجاه الوضوح. وأول الوضوح يكمن في اعلان الأطر وإظهار وجوه الفاعلين، لأن في ذلك الضمانة الكفيلة بتزخيم الحراك وتعرية العناصر الدخيلة عليه.
إذا كان صحيحاً أن لا جدال في أهمية الحراك وضرورته في استعادة التوازن المفقود والمختل لصالح المنظومة القابضة على مقدرات البلد. فإن الأصحّ أن هناك ما بات يوجب تغييراً في آليات المواجهة، باتجاه بعض الإبداع. وهذا لا يتم إلا ساعة الإقلاع عن ممارسات طفولية لا تليق بالأوجاع الحقيقية التي حركت الناس ودفعتهم إلى النزول هاتفين ومنددين، أي بعيداً عن الفولكلور اللبناني السقيم الذي يفاقمه الأداء التلفزيوني ويرعاه.
إن ما يجب أن يحفظه الجميع، وفي المقدمة منهم أولاد المكاتب، إن الحراك الذي امتلك قوة دفعه الذاتية قد انطلق من المعاناة الفعلية الشديدة الوطأة، والفضل الأول فيه يعود أولاً وأخيراً إلى الفقراء والمعدمين الذين حرّكوا مياه الأسن السلطوي وأقلقوا راحة من يسكنون القصور، ولم تنطلق من أي مكان آخر.