في أيلول الفائت أوقف الجيش اللبناني زورقاً قبالة ساحل عمشيت على متنه 24 نازحاً سورياً كانوا يحاولون مغادرة لبنان في صورة غير شرعية الى قبرص. وفي ايار غرق زورق صيد قبالة شكا كان على متنه ثمانية سوريين كانوا يحاولون الهرب ايضاً بالطريقة نفسها.استعادة الحادثتين، من قبل مصادر أمنية، تأتي في ظل تقاطعات محلية داخلية تتعلق بأزمة النازحين التي تخفت وتعلو حدتها تبعاً لمتطلبات الضغط الداخلي والاقليمي. صحيح ان عمليات التهريب من لبنان عبر البحر لا تقارن عددياً بما شهدته تركيا وحجم استفادة شبكات التهريب منها، الا أن ما قاله أمس الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وتهديده أوروبا، إذا اعتبرت عملية جيشه في شمال سوريا احتلالاً، بإرسال النازحين اليها (يبلغ عددهم حسب وكالة الهجرة واللجوء التركية 3ملايين و600 الف نازح) يفترض أن يكون جرس إنذارٍ ليس للبنان بل لأوروبا أيضاً، لأن أردوغان تصرف بما تمليه عليه مصلحة تركيا العليا، حين قدم أزمة النازحين بوصفها سيفاً يشهره في وجه أوروبا كلما دعت الحاجة: عندما تفرض دولها شروطها الاقتصادية والسياسية عليه، وحين يريد منطقة عازلة شمال سوريا ونقل النازحين اليها، وجعلهم أداة ضغط سورية داخلية، وحين يريد ابتزاز واشنطن وروسيا وإيران وأوروبا معاً. في كل ذلك يقدم الرئيس التركي العامل الداخلي، كما فعل في الانتخابات، على ما عداه، ويستخدم ورقة النازحين، مستفيداً في الوقت نفسه من كل ما يمت بصلة الى هذا الملف، أمنياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً ــ دولياً، لا سيما أن تهديد أردوغان أتى بعد سلسلة اجراءات للتضييق على السوريين في اسطنبول واعتماد اجراءات لترحيل مئات منهم الى سوريا في الاشهر الاخيرة، ومحاولة تركيا نفي هذه الوقائع.
من هنا يمكن العودة الى لبنان وكيفية تعامله مع هذا الملف، وسط سؤال أمني: ماذا لو تمكن النازحون السوريون من العبور الى قبرص ومنها الى أوروبا؟ وماذا لو لم تتمكن الأجهزة اللبنانية من توقيف الزورق وغيره من عمليات التهريب القائمة في صورة دورية؟ علماً بأن ثقلاً أمنياً مزدوجاً بين الجيش والامن العام، يضعه لبنان على المعابر البحرية والمطار في إطار الضغط لتطويق أي تسرب للنازحين من لبنان الى أوروبا. لكن الخطوات اللبنانية لا تزال من الوجهة العامة تصبّ حالياً في صالح أوروبا وحدها، بمقابلٍ أقل من المتوقع، لا يتعدى الإشادة الأممية والأوروبية باستقبال لبنان للنازحين. ورغم ان لبنان يتلقى مساعدات اممية واوروبية لإيوائه النازحين، ورغم ان بعض شبهات سادت إدارات معنية ربطاً بالافادة من هذه المساعدات، الا انه على المستوى العام لا يزال تجاوب المجتمع الدولي مع لبنان اقل من المطلوب، فيما اردوغان نفسه ذكّر امس، في اطار تهديده الاتحاد الاوروربي، بوجوب إرسال المساعدة المتوقعة بثلاثة مليارات يورو لدعم النازحين.
الخطوات اللبنانية تصبّ في صالح أوروبا، بمقابلٍ لا يتعدى الإشادة باستقبال
لبنان للنازحين


وأبعد من الافادة المالية واستثمار هذه القضية لصالح جهات متنفعة، والعودة الطوعية التي يؤمنها الامن العام، وفيما لا تزال جهات تسعى الى التقليل من أهمية ملف النازحين وتأثيراته الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، تراجع لبنان عن حملة الضغط الدولية المفترضة اوروبيا بالدرجة الاولى واميركيا في الدرجة الثانية. فلا مشروع العودة مع الروس سلك طريقه الناجح، ولا مناشدة الاميركيين أثمرت أي خطوة إيجابية، لا سيما ان الادارة الاميركية الحالية تسحب نفسها من كل الملفات الشائكة في منطقة الشرق الاوسط. لذا يصبح الممر الاوروبي الزامياً، على أكثر من مستوى، لان دول الاتحاد هي الدول الاكثر حاجة إلى طمأنة «أمنية» بوقف اندفاع النازحين اليها، وهي الغارقة في مقاربات ملف الهجرات الجماعية اليها. فهي لديها القدرة على مد لبنان بالمساعدة اللازمة، كما تشكل جسر تواصل مع الولايات المتحدة في ملف حساس ويتعلق بدول الجوار السوري. وهذه عناصر تشكل للبنان ورقة ضغط قوية، حتى الان تستفيد منها قوى سياسية في اطار حشد التأييد الداخلي فقط. واذا كان العهد الحالي وخلفه التيار الوطني الحر كانا اول من فتح ملف النازحين وضرورة معالجته، إلا أن نقل هذه القضية الى مستوى اعلى، يحتاج الى خطوات اكثر تقدماً، وأكثر شفافية، لأن المراوحة الحالية، بين سعي دائم الى ابقاء السوريين حيث هم، والاثقال الاقتصادية للنزوح، وشبهات حول المساعدات وتسربها وتحميل ملف النازحين المسؤولية عن جميع انواع الأزمات امام مجتمع دولي يعرف خفايا الفساد اللبناني وطرقه، يبقي خطر هذا الملف قائماً، في موازاة بقائه في إطار مناوشات سياسية محلية، لا سيما أن هذه القضية لا تزال تصوَّر، حتى من قبَل فريقٍ لبناني، على أنها نابعة من أسس طائفية مسيحية - شيعية مع نازحين سنّة. هنا تفوّق أردوغان على لبنان في ما فعله في ملف السوريين، وهجومه على مصر والسعودية من خلال إطار طائفي سنّي بحت، وأقفل بذلك باب المزيدات.