في أسبوع واحد، شهدت الساحة السياسية فصلين متناقضين الى الحد الأقصى. واحد مثّله حزب الله، والآخر مثّله التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية معاً.من دون الدخول في العملية التي قام بها حزب الله ضد إسرائيل وهدفها وتبعاتها، وكيف انتهت مفاعيلها حتى الآن والتدخلات الروسية والغربية التي أعقبت أسبوعاً من التهديدات والتبليغات، بات بديهياً أن حزب الله أعاد إظهار نفسه في أيام قليلة لاعباً سياسياً وحيداً، بعدما كان متفرداً بالقوة العسكرية. فهو حصد تأييداً سياسياً، على المستويات الرسمية كافة، وشدّ العصب الداخلي وزخم حرارة علاقته بحركة أمل على خلفية الجاهزية ضد إسرائيل، وأثبت مجدداً أنه قادر على أن يملك مفتاح الحرب والسلم. تخطى القرار الدولي 1701، ودفع رئيس الحكومة سعد الحريري الى السير وراءه في عملية تجميع الأوراق الدولية لمنع انزلاق لبنان نحو الحرب. كل ذلك في وقت عرف فيه كيف يطوع كل الأدوات التي يمتلكها واستفاد من توقيت مناسب إقليمياً ودولياً من واشنطن الى طهران والعراق وسوريا ولبنان، كي يعيد التأكيد أنه لا يزال القوة الأبرز والأفعل لبنانياً من دون منازع. خلال أيام قليلة، أطل الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله مرات عدة، ووجّه رسائل في الاتجاهات كافة، واستفاد من وقوف المجتمع الدولي وأوروبا تحديداً وراء الاتفاق النووي ومنع الانهيار اللبناني، ليطرح معادلة جديدة، تبنّتها الحكومة من دون أي التباس.
في هذا الوقت الذي كرس فيه مجدداً حزب الله دوره الأبعد من الحدود اللبنانية، وربط ساحات العراق وسوريا ولبنان في خط تنسيقي واحد، برز مشهد مناقض تماماً لدى القوتين الأبرز عند المسيحيين، وهما تتصارعان على المنابر وعلى كل وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت في زمن السلم، بخلاف التسعينيات، سلاحهما في وجه بعضهما البعض.
منذ 7 آب الى الأول من أيلول والثاني منه، أظهرت هاتان القوتان المسيحيتان أنهما لا تزالان غارقتين في أحقاد الماضي، وفي نبش القبور، وفي تأكيد أن كل استراتيجيتهما تدور حول نقطة واحدة، تتعلق بالصراع الداخلي المسيحي كمشروع سياسي وحيد من دون التقدم خطوة واحدة الى الأمام. ثمة وقائع سياسية في خطاب رئيس حزب القوات الدكتور سمير جعجع، صحيحة مئة في المئة، كما في خطاب رئيس حزب التيار الوطني الحر جبران باسيل. لكن كليهما يتحدثان، وكأنهما لا يزالان في «المنطقة الشرقية» وحدها، بمعنى توجّههما الى جمهور مسيحي صرف وبناء على إحداثيات مسيحية ووقائع مسيحية لا غير، ولو أن خطابهما مغلّف بمفهوم الدولة والحقوق والشراكة في الحكومة وعناوين اقتصادية عامة. خطابا جعجع وباسيل في هذه المرحلة، لا يمكن النظر إليهما، من زاوية من هو صاحب الحق بينهما، ولا من زاوية جوقة الزجالين، نواباً ووزراء ومناصرين ومنتفعين، التي ترد وراءهما وتنحدر باللغة والكلام الى أدنى مستوى بعدم احترام الأدبيات والأخلاقيات. فالتيار هو حزب العهد، وبات يمتلك حضوراً أقوى من ذي قبل، بفعل وجوده في السلطة، وفي أداء رئيسه الجامع في يديه مناصب وسلطات وحركة داخلية وخارجية لا تهدأ. والقوات تثبت كل يوم حضورها في القاعدة الشابة، وتفرض أداءها السياسي من الزاوية التي حددتها لنفسها، بصرف النظر عن أخطاء سياسية تقع فيها والتيار. وهذا يعني أنهما لا يحتاجان الى كل هذا الوقود الكلامي من أجل حشد المناصرين وتثبيت قواعدهما وانتماءاتهما السياسية، الإقليمية والدولية. وكلا رئيسي الحزبين مرشحان لرئاسة الجمهورية، وهذا يضعهما أمام تحدي الانتقال الى النقاش السياسي والحركة السياسية البحت من دون الاستمرار في النفخ بنار الخلافات الداخلية. لأن ذلك له معنى وحيد أنهما غير قادرين على الدخول في مشروع حقيقي من دون عصبية حزبية مسيحية قائمة على تهشيم الآخر، فيما الطرفان يتغنّيان بثقافة الحوار وعدم تخوين الآخر واحترام الاختلاف في الرأي وما الى ذلك من مفردات حفلت بها ورقة التفاهم بينهما. ويعني أيضاً أن أي خطاب من دون ذكر كلمة قوات أو تيار لن يكون له المردود نفسه.
توقيت السجال المفتوح منذ أشهر والمتصاعدة حدّته، يوماً بعد آخر، لا يمكن دائما تجاهله، ولا سيما حين يبرز في المقلب الآخر حدث في مثل التطور الأخير المتعلق بأداء حزب الله إقليمياً ودولياً. وكذلك لأنه يأتي أيضاً بعد أيام قليلة على إعادة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط فرض نفسه قوة سياسية يتعذّر المس بها بسهولة. حتى الحريري حدد إطار عمله السياسي، وارتضى لنفسه دوراً - اقتصادياً بحت، ومن حين الى آخر يمارس دوره رئيساً للحكومة. وحدهما القوات والتيار لا يزالان يبحثان عن هويتهما الحقيقية في تركيبة قائمة، فلا يجدان سوى ساحة مسيحية مهترئة يستخدمانها مجدداً، وكأنه لم تكفها حروب داخلية طويلة الأمد، ليبنيا عليها مشروعهما الخلافي، لا السياسي.